﴿أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ قرأ الجمهور : أني أخلق، بفتح الهمزة على أن يكون بدلاً من : آية، فيكون في موضع جر، أو بدلاً من قوله : أني قد جئتكم، فيكون في موضع نصب أو جر على الخلاف، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي : هي، أي : الآية أني أخلق، فيكون في موضع رفع. وقرأ نافع بالكسر على الاستئناف، أو على إضمار القول، أو على التفسير للآية. كما فسر المثل في قوله :﴿كَمَثَلِ ءَادَمَ﴾ بقوله :﴿خَلَقَه مِن تُرَابٍ﴾ ومعنى : أخلق : أقدّر وأهيء، والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم الصرف إلى الوجود. وهذا لا يكون إلاَّ لله تعالى. ويكون بمعنى : التقدير والتصوير، ولذلك يسمون صانع الأديم ونحوه : الخالق، لأنه يقدّر، وأصله في الإجرام، وقد نقلوه إلى المعاني قال تعالى ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا ﴾ ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى :﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ﴾ أي المقدّرين. وقال الشاعر :
ولأنت تَتِفري ما خَلَقْت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
٤٦٥
واللام في : لكم، معناها التعليل، و: من الطين، تقييد بأنه لا يوجد من العدم الصرف، بل ذكر المادة التي يشكل منها صورة.
وقرأ الجمهور : كهيئة، على وزن : جيئة، وقرأ الزهري : كهية، بكسر الهاء وياء مشددة مفتوحة بعدها تاء التأنيث، و: الكاف، من : كهيئة، اسم على مذهب أبي الحسن، فهي مفعولة : بأخلق، وعلى قول الجمهور : يكون، صفة لمفعول محذوف تقديره : هيئة مثل هيئة، ويكون : هيئة، مصدراً في معنى المفعول، أي : مثالاً مهيأً مثل.
وقرأ الجمهور : الطير، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : كهيئة الطائر، والمراد به الجنس : فأنفخ فيه الضمير في : فيه، يعود على : الكاف، أو على موصوفها على القولين المذكورين. وقرأ بعض القراء : فأنفخها، أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة، إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير، أو : على الكاف على المعنى، إذ هي بمعنى : مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في المائدة في قوله :﴿فَتَنفُخُ فِيهَا﴾ ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجرّ. كما قال :
ما شق جيب ولا قامتك نائحةولا بكتك جياد عند إسلاب
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
يريد : ولا قامت عليك، وهي قراءة شاذة نقلها الفراء. وقال النابغة :
كالهبرقيّ تنحَّى ينفخ الفحماء
فعدى : نفخ، لمنصوب، فيمكن أن يكون على إسقاط حرف الجر، ويمكن أن يكون على التضمين، أي : يضرم بالنفخ الفحم، فيكون هنا ناقصة على بابها، أو بمعنى : تصير.
وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة : طائراً، وقرأ الباقون : طيراً، وانتصابه على أنه خبر : يكون، ومن جعل : يكون، هنا تامّة، و: طائراً، حالاً فقد أبعد. وتعلق بإذن الله، قيل : بيكون. وقيل : بطائر، ومعنى : بإذن الله، أي بتمكينه وعلمه بأني أفعل، وتعاطي عيسى التصوير بيده والنفخ في تلك الصورة تبيين لتلبسه بالمعجزة، وتوضيح أنها من قبله، وأما خلق الحياة في تلك الصورة الطينية فمن الله وحده.
وظاهر الآية يدل على أن خلقه لذلك لم يكن باقتراح منهم، بل هذه الخوارق جاءت تفسيراً لقوله :﴿أَنِّى قَدْ جِئْتُكُم بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ وقيل : كان ذلك باقتراح منهم، طلبوا منه أن يخلق لهم خفاشاً على سبيل التعنت جرياً على عاداتهم مع أنبيائهم، وخصوا الخفاش لأنه عجيب الخلق، وهو أكمل الطير خلقاً، له : ثدي، وأسنان، وآذان، وضرع، يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، إنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويطير بغير ريش، وتحيض أنثاه وتلد.
روي عن أبي سعيد الخدري : أنه قال لهم : ماذا تريدون ؟ قالوا : الخفاش. فسألوه أشد الطير خلقاً لأنه يطير بغير ريش، ويقال : ما صنع غير الخفاش، ويقال : فعل ذلك أولاً وهو مع معلمه في الكتاب، وتواطأ النقل عن المفسرين أن الطائر الذي خلقه عيسى كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق، وكان بنو إسرائيل مع معاينتهم لذلك الطائر يطير يقولون في عيسى : هذا ساحر.
﴿وَأُبْرِى ُ الاكْمَهَ والابْرَصَ﴾ تقدّم تفسيرهما في المفردات. وقال مجاهد : الأكمه هو الأعشى. وقال عكرمة : هو الأعمش. وقال الزمخشري : هو الذي ولد أعمى. وقيل : هو الممسوح العين، ولم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وقال ابن عباس، والحسن، والسدّي : هو الأعمى على الإطلاق. وحكى النقاش : أن الأكمه هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يُفهم، الميت الفؤاد، وقال ابن عباس أيضاً، وقتادة : هو الذي يولد أعمى مضموم العينين.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
قيل : وقد كان عيسى يبرىء بدعائه، والمسح بيده، كل علة. ولكن لا يقوم الحجة على بني إسرائيل في معنى النبوة إلاَّ بالإبراء من