وتقدم أن في مصحف ابن مسعود : آيات، على الجمع، فمن أفرد أراد الجنس وهو صالح للقليل والكثير، ويعين المراد القرائن : اللفظية، والمعنوية، والحالية، ومن جمع فعلى الأصل، إذ هي : آيات، وهي : آية في نفسها، آمنوا أو كفروا، فيحتمل أن يكون ثَمَّ صفة محذوفة حتى يتجه التعليق بهذا الشر، أي : لآية نافعة هادئة لكم إن آمنتم، ويكون خطاباً لمن لم يؤمن بعد، وإن كان خطاباً لم آمن فذلك على سبيل التثبيت وتطمين النفس وهزها. كما تقول لإبنك : أطعني إن كنت إبني، ومعلوم أنه ابنك، ولكن تريد أن تهزه بذكر ما هو محقق. ذكر ما جعل معلقاً به ما قبله على سبيل أن يحصل.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ﴾ عطف و: مصدقاً، على قوله : بآية إذ الباء فيه للحال، ولا تكون للتعدية لفساد المعنى، فالمعنى : وجئتكم مصحوباً بآية من ربكم، ومصدقاً لما بين يدي. ومنعوا أن يكون : ومصدقاً، معطوفاً على : رسولاً إلى بني إسرائيل، ولا على : وجيهاً، لما يلزم من كون الضمير في قوله : لما بين يدي، غائباً. فكان يكون : لما بين يديه، وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله : ورسولاً، أن يكون منصوباً بإضمار فعل، أي : وأرسلت رسولاً، فعلى هذا التقدير يكون : ومصدقاً، معطوفاً على : ورسولاً. ومعنى تصديقه للتوراة الإيمان بها وإن كانت شريعته تخالف في أشياء. قال وهب بن منبه : كان يسبت ويستقبل بيت المقدس.
﴿وَلاحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ قال ابن جريج : أحل لهم لحوم الأبل والشحوم. وقال الربيع : وأشياء من السمك وما لا ضئضئة له من الطير، وكان ذلك في التوراة محرماً.
وقال بعض المفسرين : حرم عليكم، إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه، فكأن عيسى ردّ أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله. إنتهى كلامه.
واختلفوا في إحلاله لهم السبت. وقرأ عكرمة : ما حرم عليكم، مبنياً للفاعل، والفاعل ضمير يعود على : ما، من قوله : لما بين يدي، أو يعود على : الله، منزل التوراة، أو على : موسى، صاحب التوراة. والظاهر الأول لأنه مذكور. وقرأ : حرم، بوزن : كرم، إبراهيم النخعي، والمراد ببعض مدلولها المتعارف، وزعم أبو عبيدة أن المراد به هنا معنى كل خطأ، لأنه كان يلزم أن يحل لهم : القتل، والزنا، والسرقه، لأن ذلك محرم عليهم، واستدلاله على أن : بعضاً، تأتي بمعنى : كل، بقول لبيد :
ترَّاك أمكنة إذا لم أرضهاأو ترتبط بعض النفوس حمامها
ليس بصحيح، لأن بعضاً على مدلوله، إذ يريد نفسه، فهو تبعيض صحيح، وكذلك استدلال من استدل بقوله :
إن الأمور إذا الأحداث دبرهادون الشيوخ ترى في بعضها خللا
لصحة التبعيض، إذ ليس كل ما دبره الأحداث يكون فيه الخلل. وقال بعضهم : لا يقوم : بعض، مقام : كل إلا إذل دلت قرينة على ذلك، نحو قوله :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
يريد : بعض الشر أهون من كله. إنتهى. وفي ذكل نظر.
واللام في : ولأحل لكم، لام كي، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة اللفظ، فقيل : هو معطوف على المعنى، إذ المعنى في : ومصدقاً، أي : لأصدق ما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم. وهذا هو العطف على التوهم، وليس هذا منه، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحداً في المعطوف والمعطوف عليه.
٤٦٨
ألا ترى إلى قوله : فأصدق وأكن كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض ؟ وكذلك قوله :
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٥٤
تقي نقي لم يكثر غنيمةبنكهة ذي قربى ولا بحفلد
كيف اتحد معنى النفي في قوله : لم يكثر، ولا في قوله : ولا بحفلد ؟ أي : ليس بمكثر ولا بحفلد. وكذلك ما جاء من هذا النوع. وقيل : اللام تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى : أي وجئتكم لأحلّ لكم. وقيل : تتعلق اللام بقوله : وأطيعون، والمعنى : واتبعون لأحل لكم، وهذا بعيد جداً. وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : لأخفف عنكم، أو نحو ذلك.
وقال الزمخشري : ولأحل، ردّ على قوله : بآية من ربكم، أي : جئتكم بآية من ربكم، لأن : بآية، في موضع حال، و: لأحل، تعليل، ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشترك في بالحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعول به، أو ظرف، أو حال، أو تعليل، أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف.


الصفحة التالية
Icon