والآية تقتضي إعلام عيسى أن أهل الإيمان به كما يحب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعزة والمنعة والغلبة، ويظهر عن عبارة ابن جريج أن المتبعين له هم في وقت استنصاره، وهم الحواريون، جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم، وأبقى لهم في الصالحين ذكراً، فهم فوقهم بالحجة والبرهان، وما ظهر عليهم من رضوان الله.
وقيل : فوق الذين كفروا يوم القيامة في الجنة، إذ هم في الغرفات، والذين كفروا في أسفل سافلين في الدركات.
وتلخص من أقوال هؤلاء المفسرين أن متبعيه هم متبعوه في أصل الإسلام، فيكون عاماً في المسلمين، وعاماً في الكافرين، أوهم متبعوه في الإنتماء إلى شريعته، وإن لم يتبعوها حقيقة، يكون الكافرون خاصاً باليهود، أو متبعوه هم الحواريون، والكافرون : من كفر به. وأما الفوقية فإما حقيقة وذلك بالجنة والنار، وإما مجازاً أي : بالحجة والبرهان، فيكون ذلك دينياً، و: إما بالعزة والغلبة فيكون ذلك دنيوياً، وإما بهما.
﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ﴾ الظاهر أن : إلى، تتعلق بمحذوف، وهو العامل في : فوق، وهو المفعول الثاني : لجاعل، إذ معنى جاعل هنا مصير، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة، وهذا على أن الفوقية مجاز، وأما إن كانت الفوقية حقيقة، وهي الفوقية بالجنة، فلا تتعلق : إلى، بذلك المحذوف، بل بما تقدّم من : متوفيك، أو من : رافعك، أو من : مطهرك، إذ يصح تعلقه بكل واحد منها، أما برافعك أو مطهرك، فظاهر. وأما بمتوفيك فعلى بعض الأقوال. وهذه الأخبار الأربعة ترتيبها في غاية الفصاحة، بدأ أولاً : بإخباره تعالى لعيسى أنه متوفيه، فليس للماكرين به تسلط عليه ولا توصل إليه، ثم بشره ثانياً : برفعه إلى سمائه وسكناه مع ملائكته وعبادته فيها، وطول عمره في عبادة ربه. ثم ثالثاً : برفعه إلى سمائه بتطهيره من الكفار، فعم بذلك جميع زمانه حين رفعه، وحين ينزله في آخر الدنيا فهي بشارة عظيمة له أنه مطهر من الكفار أولاً وآخراً. ولما كان التوفي والرفع كل منهما خاص بزمان، بدىء بهما. ولما كان التطهير عاماً يشمل سائر الأزمان أخر عنهما، ولما بشره بهذه البشائر الثلاث، وهو أوصاف له في نفسه، بشره برفعة أتباعه فوق كل كافر، لتقرّ بذلك عينه، ويسر قلبه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠
ولما كان هذا الوصف من إعتلاء تابعيه على الكفار من أوصاف تابعيه، تأخر عن الأوصاف الثلاثة التي لنفسه، إذ البداءة بالأوصاف التي للنفس أهم، ثم أتبع بهذا الوصف الرابع على سبيل التبشير بحال تابعيه في الدنيا، ليكمل بذلك سروره بما أوتيهن، وأوتى تابعوه من الخير.
﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ هذا إخبار بالحشر والبعث، والمعنى
٤٧٤
ثم إلى حكمي، وهذا عندي من الالتفات، لأنه سبق ذكر مكذبيه : وهم اليهود، وذكر من آمن به ؛ وهم الحواريون. وأعقب ذلك قوله :﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ فذكر متبعيه والكافرين، فلو جاء على نمط هذا السابق لكان التركيب : ثم إليّ مرجعهم، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع، ليكون الإخبار أبلغ في التهديد، وأشد زجراً لمن يزدجر.
ثم ذكر لفظة : إليّ، ولفظة : فأحكم، بضمير المتكلم، ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم، وأتى بالحكم مبهماً، ثم فصل المحكوم بينهم إلى : كافر ومؤمن، وذكر جزاء كل واحد منهم.
وقال ابن عطية : مرجعكم، الخطاب لعيسى، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر، فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده، فخاطبه كما يخاطب الجماعة، إذ هو أحدها، وإذ هي مرادة في المعنى. إنتهى كلامه.
والأولى عندي أن يكون من الالتفات كما ذكرته.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ قيل : يحتمل أن يكون خاصاً، أي : كفروا بك وجحدوا نبوّتك، والظاهر العموم، ويجوز أن يكون الذين، مبتدأ ويجوز أن يكون منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده، فيكون من باب الإشتغال.
﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ وصف العذاب بالشدّة لتضاعفه وازدياده. وقيل : لاختلاف أجناسه.
﴿فِى الدُّنْيَا﴾ بالأسر والقتل والجزية والذل، ومن لم ينله شيء من هذا فهو على وجل، إذ يعلم أن الإسلام يطلبه.
﴿وَالاخِرَةِ﴾ بعذاب النار. وهذا إخبار منه تعالى بما يفعل بالكافر من أول أمره في دنياه إلى آخر أمره في عقباه.
﴿وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ﴾ تقدّم تفسير هذه الجملة في هذه السورة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠


الصفحة التالية
Icon