وقال الراغب : ومعنى : كن. بعد : خلقه من تراب : كن إنساناً حياً ناطقاً، وهو لم يكن كذلك، بل كان دهراً ملقىً لا روح فيه، ثم جعل له الروج. وقوله : كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنساناً. إنتهى.
والضمير في : له، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن، وهو قول الحوفي.
﴿الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ جملة من مبتدأ وخبر، أخبر تعالى أن الحق، وهو الشيء الثابت الذي لا شك فيه هو وارد إليك من ربك، فجميع ما أنبأك به حق، فيدخل فيه قصة عيسى وآدم وجميع أنبائه تعالى، ويجوز أن يكون : الحق، خبر مبتدأ محذوف، أي : هو. أي : خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق، و: من ربك، حال أو : خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق. ومع كونها حقاً فهي
٤٧٨
إخبار صادر عن الله.
﴿فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ قيل : الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى، والأخبار الواردة من الله تعالى. وقيل : المراد به أمّة من ظاهر الخطاب له. قال الزمخشري : ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يكون ممترياً، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفاً لغيره. وقال الراغب : الامتراء استخراج الرأي للشك العارض، ويجعل عبارة عن الشك، وقال : فلا تكن من الممترين ولم يكن ممترياً ليكون فيه ذمّ من شك في عيسى.
﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنا بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ أي : من نازعك وجادلك، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين، وكان الأمر كذلك بينه صلى الله عليه وسلّم وبين وفد نجران.
والضمير في : فيه، عائد على عيسى، لأن المنازعة كانت فيه، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله :﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى ﴾ وما بعده جاء من تمام أمره، وقيل : يعود على الحق، وظاهر من العموم في كل من يحاجّ في أمر عيسى. وقيل : المراد وفد نجران.
و : من، يصح أن تكون موصولة، ويصح أن تكون شرطية، و: العلم هنا : الوحي الذي جاء به جبريل، وقيل : الآيات المتقدّمة في أمر عيسى، الموجبة للعمل. و: ما، في : ما جاءك، موصولة بمعنى : الذي، وفي : جاءك، ضمير الفاعل يعود عليها. و: من العلم، متعلق بمحذوف في موضع الحال، أي : كائناً من العلم. وتكون : من، تبعيضية. ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك، قال بعضهم، ويخرج على قول الأخفش : أن تكون : ما، مصدرية، و: من، زائدة، والتقدير : من بعد مجيء العلم إياك.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٧٠
﴿فَقُلْ تَعَالَوْا ﴾ قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس، إذا التقدير تفاعل، وألفة منقلبة عن ياء وأصلها واو، فإذا أمرت الواحد قلت : تعال، كما تقول : إخش واسعَ. وقرأ الحسن، وأبو واقد، وأبو السمال : بضم اللام، ووجههم أن أصله : تعاليوا، كما تقول : تجادلوا، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين، وهذا تعليل شذوذ.
﴿نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ﴾ أي : يدعُ كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب : بقل : وبين من حاجه، وفسر على هذا الوجه : الأبناء بالحسن والحسين، و: بنسائه : فاطمة، و: الأنفس بعلىّ. قال الشعبي : ويدل على أن ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلّم مع حاجة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص، قال : لما نزلت هذه الآية :﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ﴾ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم : فاطمة وحسناً وحسيناً، فقال :"اللهم هؤلاء أهلي".
وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا وأبناءكم على الجمع، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته، ولو عزم نصارى نجران على المباهلة وجاؤا لها، لأمر النبي صلى الله عليه وسلّم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته.
وقيل : المراد : بأنفسنا، الإخوان، قاله ابن قتتيبة. قال تعالى :﴿وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ﴾ أي : إخوانكم. وقيل : أهل دينه، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقيل : الأزواج، وقيل : أراد القرابة القريبة، ذكرهما عليّ بن أحمد النيسابوري.
﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي : ندع بالالتعان. وقيل : نتضرّع إلى الله، قاله ابن عباس. وقال مقاتل : نخلص في الدعاء. وقال الكلبي : نجهد في الدعاء. وقيل : نتداعى بالهلاك.
﴿فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَـاذِبِينَ﴾ أي :
٤٧٩
يقول كل منا : لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره، وقد لعن صلى الله عليه وسلّم اليهود. قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقال أبو أحمد بن علان : كانا إذ ذاك مكلفين، لأن المباهلة عنده لا تصح إلاَّ من مكلف.