والمعنى : إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم. وقال أبو عبيدة : تقول العرب : قد دعاك فلان إلى سواء فاقبل منه. وفي مصحف عبد الله : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم. وقال ابن عباس : أي كلمة مستوية، أي مستقيمة. وقيل : إلى كلمة قصد. قال ابن عطية : والذي أقوله في لفظة : سواء، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع، وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون، صغيرهم وكبيرهم، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً، فلم يكونوا على استواء حال، فدعاهم بهذه الآية إلى ما يألف النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه، فسواء على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مالً سواء بيني وبينه، والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير لفظة : العدل، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل، على هذا الحد جاءت لفظة : سواء، في قوله تعالى ﴿فَانابِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ﴾ على بعض التأويلات، وإن دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرّاً مقاسماً لك. في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو استواء الحال على ما فسرته واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال، وهو عندي حسن، لأن النفوس تألفه، والله الموفق للصواب. انتهى كلامه، وهو تكثير لا طائل تحته، والظاهر انتصاب الظرف بسواء.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨١
﴿أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ﴾ موضع : أن، جر على البدل من : كلمة، بدل شيء من شيء، ويجوز أن في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، أي : هي أن لا نعبد إلاَّ الله. وجوّزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : سواء، وارتفاع : أن لا نعبد، على الابتداء والخبر قوله : بيننا وبينكم. قالوا : والجملة صفة للكلمة، وهذا وهم لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف، وجوزوا أيضاً ارتفاع : أن لا نعبد، بالظرف، ولا يصح إلاَّ على مذهب الأخفش والكوفيين حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد، والبصريون يمنعون ذلك، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير : إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من عبادة غير الله، فعلى هذا يكون : أن لا نعبد، في موضع رفع على الفاعل بسواء، إلاَّ أن فيه إضمار الرابط، وهو فيها، وهو ضعيف.
والمعنى : أن نفرد الله وحده بالعبادة ولا نشرك به شيئاً، أي : لا نجعل له شريكاً. وشيئاً يحتمل أن يكون مفعولاً به، ويحتمل أن يكون مصدراً أي شيئاً من الإشراك، والفعل في سياق النفي، فيعم متعلقاته من مفعول به ومصدر وزمان ومكان وهيئة.
٤٨٣
﴿وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ أي لا نتخذهم أرباباً فنعتقد فيهم الإلهية ونعبدهم على ذلك : كعزير وعيسى، قاله مقاتل، والزجاج، وعكرمة.
وقيل عنه : إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الأساقفة والرؤساء فيما أمروا به من الكفر والمعاصي ونجعل طاعتهم شرعاً. قاله ابن جريج، كقوله تعالى ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَـانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾ وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله. قال :"أليس كانوا يحلون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم" ؟ قال : نعم. قال :"هو ذاك".
وفي قوله : بعضنا بعضاً، إشارة لطيفة، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهاً، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم :﴿إِنْ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا﴾ ﴿إِن نَّحْنُ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعاداً : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى، يؤكد بعضها بعضاً، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة : عبدوا عيسى، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة واتخذوا أحبارهم أرباباً في الطاعة لهم في تحليلٍ وتحريمٍ وفي السجود لهم.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٨١
قال الطبري : في قوله :﴿أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله، ولم يحله. وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي، كتقديرات دون مستند، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي، كما ذهب إليه الرّوافض. انتهى. وفيه بعض اختصار.


الصفحة التالية
Icon