وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا، فما في أيدي العرب منها فهو لنا، وأنهم ظلمونا وغصبونا، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة، أن رجلاً قال لابن عباس : أنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة : الشاة والدجاجة، ويقولون : ليس علينا بذلك بأس، فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب :﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامِّيِّـانَ سَبِيلٌ﴾ أنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلاَّ عن طيب أنفسهم. وذكر هذا الأثر الزمخشري، وابن عطية، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة، قال : فيقولون ماذا قال ؟ يقول : ليس علينا في ذلك بأس.
﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم. قال السدّي، وابن جريج، وغيرهما : ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلالاً لهم أموال الأمّيين كذباً منها وهي عالمة بكذبها، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل. والظاهر أنه أعم من هذا، فيندرج هذا فيه، أي : هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق.
وجوّزوا أن يكون : علينا، خبر : ليس، وأن يكون الخبر : في الأمّيين، وذهب قوم إلى عمل : ليس، في الجار، فيجوز على هذا أن يتعلق بها.
قيل : ويجوز أن يرتفع : سبيل، بعلينا، وفي : ليس، ضمير الأمر، ويتعلق : على الله، بيقولون بمعنى : يفترون.
قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق بالكذب.
قيل : لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول.
﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب، أي : إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل، إنما هو عن علم.
﴿بَلَى ﴾ جواب لقولهم :﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامِّيِّـانَ سَبِيلٌ﴾ وهذا مناقض لدعواهم، والمعنى : بلى عليهم في الأمّيين سبيل، وقد تقدّم القول في : بلى، في قوله ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ فأغنى عن إعادته هنا.
﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِا وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ أخبر تعالى بأن من أوفى بالعهد واتقى الله في نقضه فهو محبوب عند الله وقال ابن عباس : اتقى هنا معناه اتقى الشرك، وهذه الجملة مقررة للجملة المحذوفة بعد بلى، و: من، يحتمل أن تكون موصولة، والأظهر أنها شرطية، و: أوفى، لغة الحجاز و: وفى، خفيفة لغة نجد و: وفى، مشدّدة لغة أيضاً. وتقدّم ذكر هذه اللغات.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٧
والظاهر في : بعهده، أن الضمير عائد على : من وقيل : يعود على الله تعالى، ويدخل في الوفاء بالعهد، العهد الأعظم من ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلّم، سواء أضيف العهد إلى : من، أو : إلى الله، والشرائط للجملة الخبرية أو الجزائية بمن هو العموم الذي في المتقين، أو ما قبله، فرد من أفراده، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المعنى عليه، التقدير : يحبه الله، ثم قال ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ وأتى بلفظ : المتقين، عاماً تشريفاً للتقوى وحظاً عليها.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَـانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ نزلت في أحبار اليهود : أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، قاله عكرمة. أو : فيمن حرّف نعته صلى الله عليه وسلّم من اليهود، قاله الحسن. أو : في خصومة الأشعث بن قيس مع يهودي، أو مع بعض قرابته. أو : في رجل حلف على سلعة مساءً لأعطي بها أول النهار كذا، يميناً كاذبة، قاله مجاهد، والشعبي.
والإضافة في ﴿بِعَهْدِ اللَّهِ﴾ إما للفاعل وإما للمفعول، أي : بعهد الله إياه من الإيمان بالرسول الذي بعث مصدّقاً لما معهم، وبأيمانهم التي حلفوها لنؤمنن به ولننصرنه، أو بعهد الله. والاشتراء هنا مجاز، والثمن القليل : متاع الدنيا من الرشى والتراؤس ونحو ذلك، والظاهر أنها في أهل الكتاب لما احتف بها من الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها.
﴿أُوالَـا ـاِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخِرَةِ﴾ أي : لا نصيب لهم في الآخرة، اعتاضوا بالقليل الفاني عن
٥٠١
النعيم الباقي، ونعني : لا نصيب له من الخير، نفي نصيب الخير عنه.
﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾ قال الطبري : أي بما يسرهم وقال غيره : لا يكلمهم جملة وإنما تحاسبهم الملائكة، قاله الزّجاج. وقال قوم : هو عبارة عن الغضب، أي : لا يحفل بهم، ولا يرضى عنهم، وقاله ابن بحر. وقد تقدّم في البقرة شرح :﴿وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ﴾.
﴿وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾ قال الزمخشري : ولا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان، يريد نفي اعتداده به، واحسانه إليه.
جزء : ٢ رقم الصفحة : ٤٩٧
فإن قلت أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه.