المعنى : لما وافق الأغراض التي يرمي إليها. صلى بالنار تسخن بها، وصليته أدنيته منها. التسعير : الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها، ومنه مسعر حرب.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً﴾ الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الامَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾. وقال النحاس : مكية. وقال النقاش : نزلت عند الهجرة من مكة إلى المدينة انتهى. ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة. وفي البخاري : آخر آية نزلت ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ﴾.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب، ونبه تعالى بقوله :﴿أَنِّى لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم﴾ على المجازاة. و أخبر أنَّ بعضهم من بعض في أصل التوالد، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل، وتفرَّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف، ولينبه بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابداً لله مفرده بالتوحيد والتقوى، طائعاً له، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه. فنادى تعالى : دعاء عامًّا للناس، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر، وجعل سبباً للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة. ومن كان قادراً على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأنْ يتقي. ونبه بقوله : من نفس واحدة، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض، وألف له دون غيره، ليتألف بذلك عباده على تقواه. والظاهر في الناس : العموم، لأن الألف واللام فيه تفيده، وللأمر بالتقوى وللعلة، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان. وقيل : المراد بالناس أهل مكة، كان صاحب هذا القول ينظر إلى قوله :﴿تَسَآءَلُونَ بِهِا وَالارْحَامَ﴾ لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك. يقول : أنشدك بالله وبالرحم. وقيل : المراد المؤمنون نظراً إلى قوله :﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ وقوله :"المسلم أخو المسلم" والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرة فقط، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية
١٥٣
والربوبية، لأنهم غير عارفين بالله، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو :﴿الامُورُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ ﴿قَدِيرٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية.
قيل : وجعل هذا المطلع مطلعاً السورتين : إحداهما : هذه وهي الرابعة من النصف الأول. والثانية : سورة الحج، وهي الرابعة من النصف الثاني. وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد. وبدأ بالمبدأ بأنه الأول، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامّة فيما يتقي من موجب العقاب، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد. وقيل : يجوز أن يكون أراد بالتقوى خاصة، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله. فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه. وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٠
وقال ابن عباس : المراد بالتقوى الطاعة. وقال مقاتل : الخشية. وقيل : اجتناب الكبائر والصغائر. والمراد بقوله : من نفس واحدة آدم. وقرأ الجمهور : واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس. وقرأ ابن أبي عبلة : واحد على مراعاة المعنى، إذ المراد به آدم، أو على أن النفس تذكر وتؤنث، فجاءت قراءته على تذكير النفس. ومعنى الخلق هنا : الاختراع بطريق التفريع، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر :
إلى عرق الثرى وشجت عروقيوهذا الموت يسلبني شبابي
قال : في ري الظمآن، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع. وعلى أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية، وإلا لقال : أخرجكم من نفس واحدة، فأضاف خلقنا إلى آدم، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده، ولكنه الأصل انتهى. وقال الأصم : لا يدل العقل على أنَّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة، بل السمع. ولما كان صلى الله عليه وسلّم أميّاً ما قرأ كتاباً، كان معنى خلقكم دليلاً على التوحيد، ومن نفس واحدة دليلاً على النبوّة انتهى.


الصفحة التالية
Icon