وقيل : تضمنت هذه الجملة النهي عن تمني موت الموروث. وقيل : المعنى في أقرب لكم نفعاً الأب بالحفظ والتربية، أو الأولاد بالطاعة والخدمة والشفقة. وقريب من هذا قول أبي يعلى، قال : معناه أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباء ينتفعون في كبرهم بالابناء. وقال الزمخشري معلقاً هذه الجملة : بالوصية، وأنها جاءت ترغيباً فيها وتأكيداً. قال : لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أمن أوصى منهم أم من لم يوص يعني : أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، فهو أقرب لكم نفعاً، وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلاً قريباً في الصورة إلا أنه فانِ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلاً إلا أنه باقٍ فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى انتهى كلامه. وهو خطابه. والوصية في الآية لم يأتِ ذكرها لمشروعيتها وأحكامها في نفسها، وإنما جاء ذكرها ليبين أنّ القسمة تكون بعد إخراجها وإخراج الدين، فليست مما يحدث عنها، وتفسر هذه الجملة بها. ولكنه لما اختلف حكم الابن والأب في الميراث، فكان حكم الابن إذا مات الأب عنه وعن أنثى، أن يرث مثل حظ الأنثيين، وكان حكم الأبوين إذا مات الابن عنهما وعن ولد أن يرث كل منهما السدس، وكان يتبادر إلى الذهن أن يكون نصيب الوالد أوفر من نصيب الابن، إذ ذاك لماله على الولد من الإحسان والتربية من نشئه إلى اكتسابه المال إلى موته، مع ما أمر به الابن في حياته من بر أبيه. أو يكون نصيبه مثل نصيب ابنه في تلك الحالة إجراء للأصل مجرى الفرع في الإرث، بين تعالى أنّ قسمته هي القسمة التي اختارها وشرعها، وأن الآباء والأبناء الذين شرع في ميراثهم ما شرع لا ندري نحن أيهم أقرب نفعاً، بل علم ذلك منوط بعلم الله وحكمته. فالذي شرعه هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن، فإذا كان علم ذلك عازباً عنا فلا نخوض فيما لا نعلمه، إذ هي أوضاع من الشارع لا نعلم نحن عللها ولا ندركها، بل يجب التسليم فيها لله ولرسوله. وجميع المقدرات الشرعية في كونها لا تعقل عللها هي مثل قسمة المواريث سواء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٠
قالوا : وارتفع أيهم على الابتداء، وخبره أقرب، والجملة في موضع نصب لتدرون، وتدرون من أفعال القلوب. وأيهم استفهام تعلق عن العمل في لفظه، لأن الاستفهام في غير الاستثبات لا يعمل فيه ما قبله على ما قرر في علم النحو، ويجوز فيه عندي وجه آخر لم يذكروه وهو على مذهب سيبويه، وهو : أن تكون أيهم موصولة مبنية على الضم، وهي مفعول ببتدرون، وأقرب خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أقرب، فيكون نظير قوله تعالى :﴿ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾ وقد اجتمع شرط جواز بنائها وهو أنها مضافة لفظاً محذوف صدر صلتها ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ﴾ انتصب فريضة انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة لأن معنى يوصيكم الله يفرض الله لكم. وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة لأن الفريضة ليست مصدراً. ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أي عليماً بمصالح العباد، حكيماً فيما فرض، وقسم من المواريث وغيرها. وتقدّم الكلام في كان إذا جاءت في نسبة الخبر لله تعالى، ومن زعم أنها التامة وانتصب عليماً على الحال فقوله : ضعيف، أو أنهار زائدة فقوله : خطأ.
﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌا فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَا مِنا بَعْدِ﴾ لما ذكر تعالى ميراث الفروع من الأصول، وميراث الأصول من الفروع، أخذ في ذكر ميراث المتصلين بالسبب لا
١٨٧
بالنسب وهو للزوجية هنا، ولم يذكر في القرآن التوارث بسبب الولاء. والتوارث المستقر في الشرع هو بالنسب، والسبب الشامل للزوجية والولاء. وكان في صدر الإسلام يتوارث بالموالاة والخلف والهجرة، فنسخ ذلك. وقدّم ذكر ميراث سبب الزوجية على ذكر الكلالة وإن كان بالنسب، لتواشج ما بين الزوجين واتصالهما، واستغناء كل منهما بعشرة صاحبه دون عشرة الكلاله، وبدىء بخطاب الرجال لما لهم من الدرجات على النساء. ولما كان الذكر من الأولاد حظه مع الأنثى مثل حظ الأنثيين، جعل في سبب التزوج الذكر له مثلاً حظ الأنثى. ومعنى : كان لهن ولد أي : منكم أيها الوارثون، أو من غيركم. والولد : هنا ظاهره أنه من ولدته لبطنها ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو أكثر، وحكم بني الذكور منها وإن سفلوا حكم الولد للبطن، في أن فرض الزوج منها الربع مع وجوده بإجماع.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٠


الصفحة التالية
Icon