فأولئك يتوب الله عليهم، لما ذكر تعالى أنَّ قبول التوبة على الله لمن ذكر أنه تعالى هو يتعطف عليهم ويرحمهم، ولذلك اختلف متعلقاً التوبة باختلاف المجرور. لأن الأول على الله، والثاني عليهم، ففسر كل بما يناسبه. ولما ضمَّن يتوب معنى ما يعدى بعلى عداه بعلى، كأنه قال : يعطف عليهم. وفي على الأولى روعي فيها المضاف المحذوف وهو قبول. قال الزمخشري :(فإن قلت) : ما فائدة قوله فأولئك يتوب الله عليهم بعد قوله : إنما التوبة على الله لهم ؟ (قلت) : قوله : إنما التوبة على الله إعلام بوجوبها عليه، كما يجب على العبد بعض الطاعات. وقوله : فأولئك يتوب الله عليهم، عدة بأنه يفي بما وجب عليه، وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة، كما بعد العبد الوفاء بالواجب. انتهى كلامه. وهو مشير إلى طريق الاعتزال في قولهم : إنَّ الله يجب عليه، وتقدم ذكر مذهبهم في ذلك. وقال محمد بن عمر الرازي ما ملخصه : إن قوله : إنما التوبة على الله إعلام بأنه يجب قبولها لزوم إحسان لا استحقاق، ويتوب عليهم إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو يكون الأولى بمعنى الهداية إلى التوبة والإرشاد، ويتوب عليهم بمعنى يقبل توبتهم. وكان الله عليماً حكيماً. أي عليماً بمن يطيع ويعصى، حكيماً أي : يضع الأشياء مواضعها، فيقبل توبة من أناب إليه.
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّـاَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الْـاَـانَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ نفى تعالى أن يكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة، ولا للذي وافى على الكفر. فالأول : كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق، وكالذين قال تعالى فيهم :﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ وحضور الموت أول أحوال الآخرة، فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة، فكذلك هذا الذي حضره الموت. قال الزمخشري : سوى بين الذين سوفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر أنه لا توبة لهم، لأن حضرة الموت أول أحوال الآخرة. فكما أنَّ الميت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوف إلى حضرة الموت، لمجاوزة كل واحد منهما. أوانَّ التكليف والاختيار انتهى كلامه. وهو على طريق الاعتزال. زعمت المعتزلة أن العلم بالله في دار التكليف يجوز أن يكون نظرياً، فإذا صار العلم بالله ضرورياً سقط التكليف. وأهلُ الآخرة لأجل مشاهدتهم أهوالها يعرفون الله بالضرورة، فلذلك سقط التكليف. وكذلك الحالة التي يحصل عندها العلم بالله على سبيل الاضطرار. والذي قاله المحققون : إن القرب من
١٩٩
الموت لا يمنع من قبول التوبة، لأن جماعة من بني إسرائيل أماتهم الله، ثم أحياهم وكلفهم، فدل على أنّ مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف، ولأن الشدائد التي تلقاها عند قرب الموت ليست أكثر مما تلقاها بالقولنج والطلق وغيرهما، وليس شيء من هذه يمنع من بقاء التكليف، فكذلك تلك. ولأنّه عند القرب يصير مضطراً فيكون ذلك سبباً للقبول، ولكنه تعالى يفعل ما يشاء. وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات، وبعدله أخبر عن عدم قبولها في وقت آخر، وله أن يجعل المقبول مردود، والمردود مقبولاً، ﴿لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ﴾ وقد رد على المعتزلة في دعواهم سقوط التكليف بالعلم بالله إذا صار ضرورة، وفي دعواهم أنّ مشاهدة أحوال الآخرة يوجب العلم بالله على سبيل الاضطرار.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٢
وقال الربيع : نزلت وليست التوبة في المسلمين، ثم نسخها :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِا وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ فحتم أن لا يغفر للكافرين، وأرجى المؤمنين إلى مشيئته. وطعن على ابن زيد : بأن الآية خبر، والأخبار لا تنسخ. وأجيب : بأنها تضمنت تقرير حكم شرعي، فيجوز نسخ ذلك الحكم، ولا يحتاج إلى ادعاء نسخ، لأن هذه الآية لم تتضمن أنَّ من لا توبة له مقبولة من المؤمنين لا يغفر له، فيحتاج أن ينسخ بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. وظاهر قوله : ولا الذين يموتون وهم كفار أن هؤلاء مغايرون لقوله : الذين يعملون السيئات، لأنّ أصل المتعاطفين أن يكونا غيرين، وللتأكيد بلا المشعرة بانتفاء الحكم عن كل واحد تقول : هذا ليس لزيد وعمرو بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمر، وفينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما، وليس هذا لزيد ولا لعمرو، فينتفي عن كل واحد منهما، ولا يجوز أن تقول : بل لأحدهما. وإذا تقرر هذا اتضح ضعف قول الزمخشري في قوله :(فإن قلت) : من المراد بالذين يعملون السيئات، أهم الفساق من أهل القبلة، أم الكفار ؟ (قلت) : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد به الكفار لظاهر قوله : وهم كفار، وأن يراد الفساق لأن
٢٠٠


الصفحة التالية
Icon