ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة، أعقبه بالقيام بأداء حقوق الله تعالى، وفي الشهادة حقوق الله. أو لأنه لما ذكر تعالى طالب الدنيا وأنه عنده ثواب الدنيا والآخرة، بيّن أنّ كمال السعادة أن يكون قول الإنسان وفعله الله تعالى، أو لأنه لما ذكر في هذه السورة ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَـامَى ﴾ والإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله، وذكر قصة ابن أبيرق واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل، وندب للمصالحة، أعقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله سبحانه وتعالى، وأتى بصيغة المبالغة في قوّامين حتى لا يكون منهم جور مّا، والقسط العدل. ومعنى شهداء الله أي : لوجه الله، لا يراعي في الشهادة إلا جهة الله تعالى. والظاهر أن معنى قوله : شهداء لله من الشهادة في الحقوق، ولذلك أتبعه بما بعده من قوله : ولو على أنفسكم، وهكذا فسره المفسرون. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : شهداء لله معناه بالوحدانية،
٣٦٨
ويتعلق قوله : ولو على أنفسكم، بقوله : قوّامين بالقسط، والتأويل الأول أبين انتهى كلامه. ويضعفه أنه خطاب للمؤمنين وهم شهداء لله بالوحدانية، إلا إن أريد استمرار الشهادة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٧
وتقدّمت صفة قوّامين بالقسط على شهداء الله. لأنّ القيام بالقسط أعم، والشهادة أخص. ولأنّ القيام بالقسط فعل وقول، والشهادة قول فقط. ومعنى : ولو على أنفسكم، أي تشهدون على أنفسكم أي تقرّون بالحق وتقيمون القسط عليها. والظاهر أنه أراد بقوله : ولو على أنفسكم أنفس الشهداء لله تعالى. وأبعد من جوّز أن يكون المعنى في أنفسكم : الأهل واوقارب، وأن يكون "أو الوالدين" تفسيراً لأنفسكم، ويضعفه العطف بأو. وانتصب شهداء على أنه خبر بعد خبر. ومن ذهب إلى جعله حالاً من الضمير في قوّامين كأبي البقاء، فقوله ضعيف. لأن فيها تقييداً لقيام بالقسط، سواء كان مثل هذا أم لا. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشهد لهذا القول الضعيف، قال ابن عباس : معناه كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كان ومجيء لو هنا لاستقصاء جميع ما يمكن فيه الشهادة، لما كانت الشهادة من الإنسان على نفسه بصدد أن لا يقيمها لما جبل عليه المرء من محاباة نفسه ومراعاتها، نبّه على هذه الحال، وجاء هذا الترتيب في الاستقصاء في غاية من الحسن والفصاحة. فبدأ بقوله : ولو على أنفسكم، لأنه لا شيء أعز على الإنسان من نفسه، ثم ذكر الوالدين وهما أقرب إلى الإنسان وسبب نشأته، وقد أمر ببرهما وتعظيمهما، والحوطة لهما، ثم ذكر الأقربين وهم مظنة المحبة والتعصب. وإذا كان هؤلاء أمر في حقهم بالقسط والشهادة عليهم، فالأجنبي أحرى بذلك. والآية تعرضت للشهادة عليهم لا لهم، فلا دلالة فيها على الشهادة لهم، كما ذهب إليه بعض المفسرين. ولو شرطية بمعنى : أنّ وقوله على أنفسكم متعلق بمحذوف، لأن التقدير : وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله، هذا تقرير الكلام. وحذف كان بعد لو كثير تقول : ائتني بتمرولو حشفاً، أي : وإن كان التمر حشفاً فائتني به. وقال ابن عطية : ولو على أنفسكم متعلق بشهداء. فإن عنى شهداء هذا الملفوظ به فلا يصح ذلك، وإن عنى الذي قدّرناه نحن فيصح. وقال الزمخشري : ولو على أنفسكم، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم. (فإن قلت) : الشهادة على لوالدين والأقربين أن يقول : أشهدُ أنّ لفلان على والذي كذا وعلى أقاربي، فما معنى الشهادة على نفسه ؟ (قلت) : هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها، ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم، أو على
٣٦٩
آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من توقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره انتهى كلامه. وتقديره : ولو كانت الشهادة على أنفسكم، ليس بجيد، لأن المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به قبل ليدل عليه. فإذا قلت : كن محسناً لمن أساء إليك، فتحذف كان واسمها والخبر، ويبقى متعلقه لدلالة ما قبله عليه ولا تقدره : ولو كان إحسانك لمن أساء. فلو قلت : ليكن منك إحسان ولو لمن أساء، فتقدر : ولو كان الإحسان لمن أساء لدلالة ما قبله عليه، ولو قدرته. ولو كنت محسناً لمن أساء إليك لم يكن جيداً، لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق. وقول الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم هذا لا يجوز، لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد، ولا يجوز حذف الكون المقيد، لو قلت : كان زيد فيك وأنت تريد محباً فيك لم يجز، لأنّ محباً مقيداً، وإنما ذلك جائز في الكون المطلق، وهو : تقدير كائن أو مستقر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٧


الصفحة التالية
Icon