وقال الزمخشري : يعني ولكنهم يتبعون الظنّ، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وقال ابن عطية : هو استثناء متصل، إذ الظنّ والعلم يضمهما أنهما من معتقدات اليقين. وقد يقول الظان على طريق التجوّز : علمي في هذا الأمر أنه كذا، وهو يعني ظنه انتهى. وليس كما ذكر، لأنّ الظنّ ليس من معتقدات اليقين، لأنه ترجيح أحد الجائزين، وما كان ترجيحاً فهو ينافي اليقين، كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين. وعلى تقدير أنّ الظنّ والعلم يضمهما ما ذكر، فلا يكون أيضاً استثناء متصلاً، لأنه لم يستثني الظنّ من العلم. فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظنّ، وإنما التلاوة إلا اتباع الظنّ، والاتباع للظنّ لا يضمه والعلم جنس ما ذكر. وقال الزمخشري. فإن قلت : لم وصفوا بالشك والشك أنّ لا يترجح أحد الجائزين ؟ ثم وصفوا بالظنّ والظنّ أن يترجح أحدهما، فكيف يكونون شاكين ظانين ؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط، ولكن لاحت لهم أمارة فظنوا انتهى. وهو جواب سؤاله، ولكن يقال : لا يرد هذا السؤال لأنّ العرب تطلق الشك على ما لم يقع فيه القطع، واليقين فيدخل فيه كلما يتردّد فيه، إما على السواء بلا ترجيح، أو بترجيح أحد الطرفين. وإذا كان كذلك اندفع السؤال.
﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا ﴾ قال ابن عباس والسدي وجماعة : الضمير في قتلوه عائد على الظن. تقول : قتلت هذا الأمر علماً إذا قطعت به وجزمت الجزم الذي لا يخالجه شيء. فالمعنى : وما صح ظنهم عندهم وما تحققوه يقيناً، ولا قطعوا الظن باليقين. وقال الفراء وابن قتيبة ؛ الضمير عائد على العلم أي : ما قتلوا العلم يقيناً. يقال : قتلت العلم والرأي يقيناً، وقتلته علماً، لأن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء، فكأنه قيل : لم يكن علمهم بقتل المسيح علماً أحيط به، إنما كان ظناً. قال الزمخشري : وفيه تهكم، لأنه إذا نفى عنهم العلم نفياً كلياً بحرف الاستغراق ثم قيل : وما علموه علم يقين، وإحاطة لم يكن إلا تهكماً انتهى. والظاهر قول الجمهور : إن الضمير يعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد، فلا تختلف. والمعنى صحيح بليغ، وانتصاب يقيناً على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل قتلوه أي : متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم : إنا قتلنا المسيح قاله : السدي. أو نعت لمصدر محذوف أي : قتلاً يقيناً جوزه الزمخشري. وقال الحسن : وم قتلوه حقاً انتهى. فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك : وما قتلوه حقاً أي : حق انتفاء قتله حقاً. وما حكي عن ابن الأنباري أنه في الكلام تقديماً وتأخيراً، وإن يقيناً منصوب برفعه الله أيه، والمعنى : بل رفعه الله إليه يقيناً، فلعله لا يصح عنه. وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ، لأنه لا يعمل ما بعد بل في ما قبلها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٦
﴿بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾ هذا إبطال لما ادعوه من قتله وصلبه، وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن الرسولصلى الله عليه وسلّم في حديث المعراج. وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض لقتل الدجال، وليملأها عدلاً كما ملئت جوراً، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما تموت البشر. وقال قتادة : رفع الله عيسى إليه فكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه الطعام والشراب، فصار مع الملائكة، فهو معهم حول العرش، فصار إنسياً ملكياً سماوياً أرضياً.
والضمير في إليه عائد إلى الله تعالى على حذف التقدير إلى سمائه، وقد جاء ﴿وَرَافِعُكَ إِلَىَّ﴾. وقيل : إلى حيث لا حكم فيه إلا له. ولا يوجه الدعاء إلا نحوه، وهو راجع إلى الأول. وقال أبو عبد الله الرازي : أعلم الله تعالى عقيب ذكره أنه وصل إلى عيسى أنواع من البلايا، أنه رفعه إليه فدل أنّ رفعه إليه أعظم في إيصال الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية، وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية انتهى. وفيه نحو من كلام المتفلسفة.
٣٩١
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ قال أبو عبد الله الرازي : المراد من المعزة كمال القدرة، ومن الحكمة كمال العلم، فنبه بهذا على أنّ رفع عيسى عليه السلام من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمتعذر على البشر، لكنْ لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وحكمتي انتهى. وقال غيره : عزيزاً أي قوياً بالنقمة من اليهود، فسلط عليهم بطرس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة. حكيماً حكم عليهم باللعنة والغضب. وقيل : عزيزاً أي : لا يغالب، لأن اليهود حاولت بعيسى عليه السلام أمراً وأراد الله خلافه. حكيماً أي : واضع الأشياء مواضعها. فمن حكمته تخليصه من اليهود، ورفعه إلى السماء لما يريد وتقتضيه حكمته تعالى. وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة، ثم رفعه وهو ا بن ثلاث وثلاثين سنة، فكانت نبوته ثلاث سنين. وقيل : بعث الله جبريل عليه السلام فأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها، فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الروزنة.