﴿عَلِيمُا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ هذه السورة مدنية، نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الحديبية، ومنها ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما نزل عام الفتح. وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة، أو في سفر، أو بمكة، فهو مدني. وذكروا فضائل هذه السورة وأنها تسمى : المائدة، والعقود، والمنقذة، والمبعثرة. ومناسبة افتتاحها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها، ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال، فبين في هذه السورة أحكاماً كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل. قالوا : وقد تضمنت هذه السورة ثمانية عشر فريضة لم يبينها في غيرها، وسنبينها أوّلاً فأوّلاً إن شاء الله تعالى. وذكروا أن الكندي الفيلسوف قال له أصحابه : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا لقرآن، فقال : نعم، أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في إجلاد انتهى.
والظاهر أنّ النداء لأمة الرسول المؤمنين. وقال ابن جريج : هم أهل الكتاب. وأمر تعالى المؤمنين بإيفاء العقود وهي جمع عقد، وهو العهد، قاله : الجمهور، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي. وقال الزجاج : العقود أوكد من العهود، وأصله في الاجرام ثم توسع فأطلق في المعاني، وتبعه الزمخشري فقال : هو العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه. قال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهمشدّوا العناج وشدوا فوقه الكربا
والظاهر عموم المؤمنين في المخلص والمظهر، وعموم العقود في كل ربط يوافق الشرع سواء كان إسلامياً أم جاهلياً وقد سأل فرات بن حنان العجلي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن حلف الجاهلية فقال :"لعلك تسأل عن حلف تيم الله" قال : نعم يا نبي الله. قال :"لا يزيده الإسلام إلا شدة". وقال صلى الله عليه وسلّم في حلف الفضول وكان شهده في دار عبد الله بن جدعان :"ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو ادّعى به في الإسلام لأجبت" وكان هذا الحلف أنّ قريشاً تعاقدوا على أنْ لا يجدوا مظلوماً بمكة من أهلها أو من غير أهلها إلا قاموا معه حتى ترد مظلمته، وسميت ذلك الحلف حلف الفضول. وكان الوليد بن عقبة أميراً على المدينة، فتحامل على الحسين بن علي في مال فقال : لتنصفني من حقي وإلا أخذت بسيفي، ثم لأقومن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم، ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير : لئن دعاني لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينتصف من خصمه، أو نموت جميعاً. وبلغت المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيميّ فقالا مثل ذلك، وبلغ ذلك الوليد فأنصفه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٩
ويندرج في هذا العموم كل عقد مع إنسان كأمانٍ، ودية، ونكاح، وبيع، وشركة، وهبة، ورهن، وعتق، وتدبير، وتخيير، وتمليك، ومصالحة، ومزارعة، وطلاق، وشراء، وإجارة، وما عقده مع نفسه لله تعالى من طاعة : كحجٍ، وصومٍ، واعتكافٍ، وقيام، ونذر وشبه ذلك. وقال ابن عباس ومجاهد : هي العهود التي أخذها الله على عباده فيما أحل وحرم، وهذا القول بدأ به الزمخشري فقال : هي العهود التي عقدها الله على عباده وألزمها إياهم من واجب التكليف، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل. وقال قتادة : هو الحلف الذي كان بينهم في الجاهلية، قال : وروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :"أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام". وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما : هي كل ما ربطه المرء على
٤١١
نفسه من بيع أو نكاح أو غيره. وقال ابن زيد أيضاً، وعبد الله بن عبيدة : العقود خمس : عقدة الإيمان، وعقدة النكاح، وعقدة العهد، وعقدة البيع، وعقدة الحلف. وقيل : هي عقود الأمانات والبياعات ونحوها، وقال ابن جريج : هي التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بها بما جاءهم به الرسول. وقال ابن شهاب : قرأت الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره :"هذا بيان من الله ورسوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود إلى قوله إن الله سريع الحساب" وقيل : العقود هنا الفرائض.


الصفحة التالية
Icon