ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب. فمن مجيء أفعل لبلوغ المكان ودخوله قولهم : أحرم الرّجل، وأعرق، وأشأم، وأيمن، وأتهم، وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها. ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم : أعشبت الأرض، وأبقلت، وأغد البعير، وألبنت الشاة، وغيرها، وأجرت الكلبة، وأصرم النخل، وأتلت الناقة، وأحصد الزرع، وأجرب الرّجل، وأنجبت المرأة. وإذا تقرر أنّ الصيد يوصف بكونه محلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ، أو صار ذا حل، اتضح كونه استثناء من استثناء، إذ لا يمكن ذلك لتناقص الحكم. لأنّ المستثنى من المحلل محرم، والمستثنى من المحرم محلل. بل إن كان المعنى بقوله : بهيمة الأنعام، الأنعام أنفسها، فيكون استثناء منقطاً. وإن كان المراد الظباء وبقر الوحش وحمره ونحوها، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المحل، استثنى الصيد الذي بلغ الحل في حل كونهم محرمين. (فإن قلت) : ما فائدة الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضاً ؟ (قلت) : الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، فنبه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم، وإن كان حلالاً لغيره، فأحرى أن يحرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسير يكون قوله : إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله : حرمت عليكم الميتة الآية، استثناء منقطعاً، إذ لا يختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقره ونحوها، فيصير لكنْ ما يتلى عليكم أي : تحريمه فهو محرم. وإن كان المراد ببهيمة الأنعام الأنعام والوحوش، فيكون الاستثناآن راجعين إلى المجموع على التفصيل، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج، ويرجع غير محلى الصيد إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول. وإذا لم يمكن ذلك، وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز. وقد نص النحويون على أنه إذا لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك : قام القوم إلا زيداً، إلا عمراً، إلا بكراً (فإن قلت) : ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد، لا من صفة الناس، ولا من صفة الفاعل المحذوف،
٤١٧
يعكر عليه كونه كتب في رقم المصحف بالياء، فدل ذلك على أنه من صفات الناس، إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء، وبكون الفراء وأصحابه وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك. (قلت) : لا يعكر على هذا التخريج لأنّهم كتبوا كثيراً رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو : باييد بياءين بعد الألف، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف، وبنقصهم منه ألفاً. وكتابتهم الصلحت ونحوه بإسقاط الألفين، وهذا كثير في الرسم. وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز، لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه، وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو ينقطع النفس، فوقفوا على الرسم كما وقفوا على ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ من غير واو اتباعاً للرسم. على أنه يمكن توجيه كتابته بالياء والوقف عليه بياء بأنه جاء على لغة الازد، إذ يقفون على بزيد بزيدي بإبدال التنوين ياء، فكتب محلى بالياء على الوقف على هذه اللغة، وهذا توجيه شذوذ رسمي، ورسم المصحف مما لا يقاس عليه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٩
وقرأ ابن أبي عبلة : غير بالرفع، وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله : بهيمة الأنعام، ولا يلزم من الوصف بغير أن يكون ما بعدها مماثلاً للموصوف في الجنسية، ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء، وخرج أيضاً على الصفة للضمير في يتلى. قال ابن عطية : لأن غير محلى الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيداً انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التكلف على تخريجنا محلى الصيد وأنتم حرم جملة حالية. وحرم جمع حرام.
ويقال : أحرم الرجل إذا دخل في الإحرام بحج أو بعمرة، أو بهما، فهو محرم وحرام، وأخرم الرجل دخل في الحرم. وقال الشاعر :
فقلت لها فيىء إليك فإننيحرام وإني بعد ذاك لبيب
أي : ملب. ويحتمل الوجهين قوله : وأنتم حرم، إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم، وعلى من كان أحرم بالحج والعمرة، وهو قول الفقهاء. وقال الزمخشري : وأنتم حرم، حال عن محل الصيد كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم انتهى. وقد بينا فساد هذا القول، بأنّ الأنعام مباحة مطلقاً لا بالتقييد بهذه الحال.