من باز وصقر ونحوهما فلا يحل، إلا أن تدرك ذكاته فتذكيه. وجوز قوم البزاة، فجوزا صيدها لحديث عدي بن حاتم. وغلب الجمهور ظاهر : وما علتمتم، وقالوا : معنى مكلبين مؤدبين ومضرين ومعودين، وعمموا الجوارح في كواسر البهائم والطير مما يقبل التعليم. وأقصى غاية التعليم أنْ يشلي فيستشلي، ويدعى فيجيب، ويزجر بعد الظفر فينزجر، ويمتنع من أن يأكل من الصيد. وفائدة هذه الحال وإن كانت مؤكدة لقوله : علمتم، فكان يستغنى عنها أن يكون المعلم مؤتمراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به، واشتقت هذه الحال من الكلب وإن كانت جاءت غاية في الجوارح على سبيل التغليب، لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه.
قال أبو سليمان الدمشقي : وإنما قيل مكلبين، لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب انتهى. واشتقت من الكلب وهي الضراوة يقال : هو كلب بكذا إذا كان ضارياً به. قال الزمخشري : أو لأن السبع يسمى كلباً، ومنه قوله عليه السلام :"اللهم سلط عليه كلباً من كلابك" فأكله الأسد، ولا يصح هذا الاشتقاق، لأنّ كون الأسد كلباً هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها لا بجعل المعلم. وظاهر قوله : وما علمتم، أنه خطاب للمؤمنين. فلو كان المعلم يهودياً أو نصرانياً فكره الصيد به الحسن، أو مجوسياً فكره الصيد به : جابر بن عبد الله، والحسن، وعطاء، ومجاهد، والنخعي، والثوري، وإسحاق. وأجاز أكل صيد كلابهم : مالك، وأبو حنيفة، والشافعي إذا كان الصائد مسلماً. قالوا : وذلك مثل شفرته. والجمهور : على جواز ما صاد الكتابي. وقال مالك : لا يجوز فرق بين صيده وذبيحته. وما صاد المجوسي فالجمهور على منع أكله : عطاء، وابن جبير، والنخعي، ومالك، وأبو حنيفة، والليث، والشافعي. وقال أبو ثور : فيه قول أنهم أهل كتاب، وأن صيدهم جائز، وما علمتم موضع ما رفع على أنه معطوف على الطيبات، ويكون حذف مضاف أي : وصيد ما علمتم، وقدره بغضهم : واتخاذ ما علمتم. أو رفع على الابتداء، وما شرطية، والجواب : فكلوا. وهذا أجود، لأنه لا إضمار فيه.
وقرأ ابن عباس وابن الحنفية : وما عُلمتم مبنياً للمفعول أي : من أمر الجوارح والصيد بها. وقرأ : مكلبين من أكلب، وفعل وأفعل، قد يشتركان. والظاهر دخول الكلب الأسود البهيم في عموم الجوارح، وأنه يجوز أكل صيده، وبه قال الجمهور. ومذهب أحمد وجماعة من أهل الظاهر : أنه لا يجوز أكل صيد، لأنه مأمور بقتله، وما أوجب الشرع قتله فلا يجوز أكل صيده. وقال أحمد : لا أعلم أحداً رخص فيه إذا كان بهيماً وبه قال : ابن راهويه. وكره الصيد به : الحسن، وقتادة، والنخعي. وقد تقدم ذكر أقصى غاية التعليم في الكلب، أنه إذا أمر ائتمر، وإذا زجر انزجر. وزاد قوم شرطاً آخر وهو أن لا يأكل مما صاد، فأما سباع الطير فلا يشترط فيها الأكل عند الجمهور. وقال ربيعة : ما أجاب منها فهو المعلم. وقال ابن حبيب : لا يشترط فيها إلا شرط واحد : وهو أنه إذا أمرها أطاعت، فإن انزجارها إذا زجرت لا يتأتى فيها. وظاهر قوله : وما علمتم، حصول التعليم من غير اعتبار عدد. وكان أبو حنيفة لا يجد في ذلك عدداً. وقال أصحابنا : إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات فقد حصل له التعليم. وقال غيرهم : إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد صار معلماً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٧
﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ﴾ أي : إنّ تعليكم إياهنّ ليس من قبل أنفسكم، إنما هو من العلم الذي علمكم الله، وهو أن جعل لكم روية وفكراً بحيث قبلتم العلم. فكذلك الجوارح بصبر لها إدراك مّا وشعور، بحيث يقبلن الائتمار والانزجار. وفي قوله : مما علمكم الله، إشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه، إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان. ومفعول علم وتعلمونهنّ الثاني محذوف تقديره : وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهنّ تعلمونهنّ ذلك، وفي ذلك دلالة على أن
٤٢٩
صيد ما لم يعلم حرام أكله، لأنّ الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم. والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله : فكلوا مما أمسكن عليكم، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه. ومعنى مما علمكم الله أي : من الأدب الذي أدّبكم به تعالى، وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه، فإذا أمر فائتمر، وإذا زجر فانزجر، فقد تعلم مما علمنا الله تعالى. وقال الزمخشري : مما علمكم الله من كلم التكليف، لأنه إلهام من الله تعالى ومكتسب بالعقل انتهى. والجملة من قوله : تعلمونهن، حال ثانية. ويجوز أن تكون مستأنفة على تقدير : أن لا تكون ما من قوله : وما علمتم من الجوارح، شرطية، إلا إن كانت اعتراضاً بين الشرط وجزائه. وخطب الزمخشري هنا فقال : وفيه فائدة جليلة وهي أنّ كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من قبل أهله علماً وأبحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه، واحتاج إلى أن تضرب إليه أكباد الإبل، فكم من أخذ من غير متقن فقد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله.