تعالى فأضمر في قال وضمير، فإنها إلى الأرض المقدّسة محرّمة عليهم، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وتقدّم الكلام على انتظام قوله :﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ مع قوله محرمة عليهم، ودل هذا على أنهم بعد الأربعين لا تكون محرمة عليهم. فروي أن موسى وهارون عليهما السلام كانا معهم في التيه عقوبة لهم وروحاً وسلاماً لهما، لا عقوبة، كما كانت النار لابراهيم ولملائكة العذاب. فروي أن موسى سار بعد الأربعين بمن بقي من بني إسرائيل، وكان يوشع وكالب على مقدمته، ففتح اريحا وقتل عوج بن عنق، وذكروا من وصف عوج وكيفية قتل موسى له ما لا يصح. وأقام موسى فيها ما شاء الله ثم قبض. وقيل : مات هارون في التيه. قال ابن عطية : ولم يختلف في هذا. وروي : أنّ موسى مات في التيه بعد هارون بثمانية أعوام. وقيل : بستة أشهر ونصف. وقيل : بسنة ونبأ الله يوشع بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل، وأخبرهم أن الله تعالى أمره بقتال الجبابرة فصدّقوه وبايعوه، وسار فيهم إلى اريحا وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبني إسرائيل. وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وقد ألمّ بذكر وقوف الشمس ليوشع أبو تمام في شعره فقال :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٢
فردت علينا الشمس والليل راغمبشمس بدت من جانب الخدر تطلعنضا ضوؤها صبغ الدجنة وانطوىلبهجتها ثوب السماء الجزع فوالله ما أدري أأحلام نائمألمت بنا أم كان في الركب يوشع
والظاهر أن العامل في قوله : أربعين محرمة، فيكون التحريم مقيداً بهذه المدة، ويكون يتيهون مستأنفاً أو حالاً من الضمير في عليهم. ويجوز أن يكون العامل يتيهون أي : يتيهون هذه المدة في الأرض، ويكون التحريم على هذا غير مؤقت بهذه المدة، بل يكون إخباراً بأنهم لا يدخلونها، وأنهم مع ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة يموت فيها من مات. وروي أنه من كان جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه، وأنّ من كان دون العشرين عاشوا، كأنه لم يعش المكلفون العصاة، أشار إلى ذلك الزجاج، ولذلك ذهب إلى أن العامل في أربعين محرمة. وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمراً يدل عليه يتيهون المتأخر انتهى. ولا أدري ما الحامل له على قوله : إن العامل مضمر كما ذكر ؟ بل الذي جوز الناس في ذلك أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه، لا مضمر يفسره قوله : يتيهون في الأرض. والأرض التي تاهوا فيها على ما حكى طولها ثلاثون ميلاً، في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام. وقال ابن عباس : تسعة فراسخ، قال مقاتل : هذا عرضها وطولها ثلاثون فرسخاً. وقيل : ستة فراسخ في طول اثنى عشر فرسخاً، وقيل : تسعة فراسخ. وتظافرت أقوال المفسرين على أن هذا التيه على سبيل خرق العادة، فإنه عجيب من قدرة الله تعالى، حيث جاز على جماعة من العقلاء أن يسيروا فراسخ يسيرة ولا يهتدون للخروج منها. روي أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي ابتدأوا منه، ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا أذاهم بحيث ارتحلوا عنه، فيكون سيرهم تحليفاً. قال مجاهد وغيره : كانوا يسيرون النهار أحياناً والليل أحياناً، فيمسون حيث أصبحوا، ويصبحون حيث يمسون، وذلك في مقدار ستة فراسخ، وكانوا في سيارة لا قرار لهم انتهى. وذكر
٤٥٨
أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين، وذكروا أنّ حكمة التيه هو أنهم لما قالوا :﴿إِنَّا هَـاهُنَا قَـاعِدُونَ﴾ عوقبوا بالقعود، فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون، كلما ساروا يوماً أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه. وذكروا أن حكمة كون المدّة التي تاهوا فيها أربعين سنة هي كونهم عبدوا العجل أربعين يوماً، جعل عقاب كل يوم سنة في التيه. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة، وقلة اجتماع الرأي، وأنه تعالى رماهم بالاختلاف، وعلموا أنها حرّمت عليهم أربعين سنة، فتفرّقت منازلهم في ذلك الفحص، وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع حتى كملت هذه المدة، وأذن الله تعالى بخروجهم، وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكره مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٢
﴿فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ﴾ الظاهر أن الخطاب من الله تعالى لموسى عليه السلام. قال ابن عباس : ندم موسى على دعائه على قومه وحزن عليهم انتهى. فهذه مسلاة لموسى عليه السلام عن أن يحزن على ما أصاب قومه، وعلل كونه لا يحزن بأنهم قوم فاسقون بهوت أحقاء بما نالهم من العقاب. وقيل : الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلّم، والمراد بالفاسقين معاصروه أي : هذه فعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردّهم عليك فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٢


الصفحة التالية
Icon