أي للفضيحة العظيمة. قالوا : ويحتمل إن صح أنه قتل غراب غراباً أو كان ميتاً، أن يكون الضمير في أخيه عائداً على الغراب، أي : ليرى قابيل كيف يواري الغراب سوءة أخيه وهو الغراب الميت، فيتعلم منه بالأداة كيف يواري قابيل سوءة هابيل، وهذا فيه بعد. لأن الغراب لا تظهر له سوءة، والظاهر أنّ الإرادة هنا من جعله يرى أي : يبصر، وعلق ليريه عن المفعول الثاني بالجملة التي فيها الاستفهام في موضع المفعول الثاني، وكيف معمولة ليواري. وليريه متعلق بيبحث. ويجوز أن يتعلق بقوله : فبعث، وضمير الفاعل في ليريه الظاهر أنه عائد على الله تعالى، لأن الإراءة حقيقة هي من الله، إذ ليس للغراب قصد الإراءة وإرادتها. ويجوز أن يعود على الغراب أي : ليريه الغراب، أي : ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز، ويظهر أن الحكمة في أن كان هذا المبعوث غراباً دون غيره من الحيوان ومن الطيور كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب، وذلك مناسب لهذه القصة. وقيل : فبعث جملة محذوفة دل عليها المعنى تقديره : فجهل مواراته فبعث.
﴿قَالَ يَـاوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الْغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أَخِى ﴾ استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم، وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والرؤيا والتدبير من طائر لا يعقل. ومعنى هذا استفهام : الإنكار على نفسه، والنعي أي : لا أعجز عن كوني مثل هذا الغرب، وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لها بقوله : مثل هذا الغراب. وأصل النداء أن يكون لمن يعقل، ثم قد ينادي ما لا يعقل على سبيل المجاز كقولهم : يا عجباً ويا حسرة، والمراد بذلك التعجب. كأنه قال : انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة، فالمعنى : تنبهوا لهذه الهلكة. وتأويله هذا أوانك فاحصري. وقرأ الجمهور : يا ويلتا بألف بعد التاء، وهي بدل من ياء المتكلم، وأصله يا ويلتي بالياء، وهي قراءة الحسن. وأمال حمزة والكسائي وأبو عمر وألف ويلتي. وقرأ الجمهور : أعجزت بفتح
٤٦
الجيم. وقرأ ابن مسعود، والحسن، وفياض، وطلحة، وسليمان : بكسرها وهي لغة شاذة، وإنما مشهور الكسر في قولهم : عجزت المرأة إذا كبرت عجيزتها. وقرأ الجمهور : فأواريَ بنصب الياء عطفاً على قوله : أن أكون. كأنه قال : أعجزتُ أن أواريَ سوءة أخي. وقال الزمخشري : فأواري بالنصب على جواب الاستفهام انتهى. وهذا خطأ فاحش، لأن الفاء الواقعة جواباً للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء، وهنا تقول : أتزورني فأكرمك، والمعنى : إن تزرني أكرمك. وقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٩
﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُوا لَنَآ﴾ أي إن يكن لنا شفعاء يشفعوا. ولو قلت هنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوارِ سوءة أخي لم يصح، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب. وقرأ طلحة بن مصرف، والفياض بن غزوان : فأواريْ بسكون الياء، فالأولى أن يكون على القطع أي : فأنا أواري سوءة أخي، فيكون أواري مرفوعاً. وقال الزمخشري : وقرىء بالسكون على فأنا أواري، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى. يعني : الزمخشري : وقرىء بالسكون على فأنا أواري، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى. يعني : أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفاً استثقلها على حرف العلة. وقال ابن عطية : هي لغة لتوالي الحركات انتهى. ولا ينبغي أن يخرج على النصب، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة، ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفاً كما أشار إليه الزمخشري، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات، لأنه لم يتوال فيه الحركات. وهذا عند النحويين ـ أعني النصب ـ بحذف الفتحة، لا يجوز إلا في الضرورة، فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على جه صحيح، وقد وجد وهو الاستئناف أي : فأنا أواري. وقرأ الزهري : سوة أخي بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى الواو. ولا يجوز قلب الواو ألفاً لتحركها وانفتا ما قبلها، لأن الحركة عارضة كهي في سمول وجعل. وقرأ أبو حفص : سوة بقلب الهمزة واواً، وأدغم الواو فيه، كما قالوا في شيء شي، وفي سيئة سية. قال الشاعر :
وإن رأوا سية طاروا بها فرحامني وما علموا من صالح دفنوا
﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ﴾ قيل : هذه جملة محذوفة تقديره : فوارى سوءة أخيه. والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه، وتبشيره أنه من أصحاب النار. وهذا يدل على أنه كان عاصياً لا كافراً. قيل : ولم ينفعه ندمه، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة. وقيل : من النادمين على جملة. وقيل : من النادمين خوف الفضيحة. وقال الزمخشري : من النادمين على قتله لما تعب من حمله، وتحيره في أمره، وتبين له من عجزه ونلمذته للغراب، واسوداد لونه، وسخط أبيه، ولم يندم ندم التائبين انتهى.