﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ ظاهره أنه استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق، فإذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما ترتب على الحرابة، وهذا فعل عليّ رضي الله عنه بحارثة بن بدر العراني فإنه كان محارباً ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له سقوط الأموال والدم عنه كتاباً منشوراً. وقالوا : لا نظر للإمام فيه إلا كما ينظر في سائر المسلمين، فإن طولب بدم نظر فيه أو قيد منه بطلب الولي، وإنْ طولب بمال فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي : يؤخذ ما وجد عنده من مال غيره، ويطالب بقيمة ما استهلك. وقال قوم من الصحابة والتابعين : لا يطالب بما استهلك، ويؤخذ ما وجد عنده بعينه. وحكى الطبري عن عروة : أنه لا تقبل توبة المحارب، ولكن لو فر إلى العدوّ ثم جاءنا تائباً لم أر عليه عقوبة. قال الطبري : ولا أدري هل أراد ارتد أم لا ؟ وقال الأوزاعي نحوه، إلا أنه قال : إذا لحق بدار الحرب فارتد عن الإسلام، أو بقي عليه، ثم جاءنا تائباً من قبل أن نقدر عليه قبلت توبته.
﴿يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَـاهِدُوا فِى سَبِيلِهِا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ مناسبة هذه
٤٧١
الآية لما قبلها، أنه تعالى لما ذكر جزاء من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً من العقوبات الأربع، والعذاب العظيم المعد لهم في الآخرة، أمر المؤمنين بتقوى الله، وابتغاء القربات إليه، فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين. ولما كانت الآية نزلت في العرنيين والكلبيين، أو في أهل الكتاب اليهود، أو في المشركين على الخلاف في سبب النزول، وكل هؤلاء سعى في الأرض فساداً، نص على الجهاد، وإنْ كان مندرجاً تحت ابتغاء الوسيلة لأن به صلاح الأرض، وبه قوام الدين، وحفظ الشريعة، فهو مغاير لأم المحاربة، إذ الجهاد محاربة مأذون فيها، وبالجهاد يدفع المحاربون. وأيضاً ففيه تنبيه على أنه يجب أن تكون القوّة والبأس الذي للمحارب مقصوراً على الجهاد في سبيل الله تعالى، وأن لا يضع تلك النجدة التي وهبها الله له للمحاربة في معصية الله تعالى، وهل الوسيلة القربة التي ينبغي أن يطلب بها، أو الحاجة، أو الطاعة، أو الجنة، أو أفضل درجاتها، أقوال للمفسرين. وذكر رجاء الفلاح على تقدير حصول ما أمر به قبل من التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيله. والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه، والفوز بالمرجوّ.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٩
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَه مَعَه لِيَفْتَدُوا بِهِا مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَا﴾ لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة، وذكر فوزهم في الآخرة وما آلوا من الفلاح، شرح حال الكفار وعاقبه كفرهم، وما أعد لهم من العذاب. والجملة من لو وجوابها في موضع خبر إنّ، ومعنى ما في الأرض : من صنوف الأموال التي يفتدى بها، ومثله معطوف على اسم إن، ولام كي تتعلق بما تعلق به خبر إن وهو لهم. والمعنى : لو أنّ ما في الأرض ومثله معه مستقر لهم على سبيل الملك ليجعلوه فدية لهم ما تقبل، وهذا على سبيل التمثيل ولزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل إلى نجاتهم منه. وفي الحديث "يقال للكافر : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول : نعم. فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك" ووجد الضمير في به، وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف، وهو ما في الأرض ومثله معه، إمّا لفرض تلازمهما فأجريا مجرى الواحد كما قالوا : رب يوم وليلة مرّ بي، وإما لإجراء الضمير
٤٧٢
مجرى اسم الإشارة كأنه قال : ليفتدوا بذلك. قال الزمخشري : ويجوز أن تكون الواو في : ومثله، بمعنى مع، فيوحد المرجوع إليه. (فإن قلت) : فبم ينتصب المفعول معه ؟ (قلت) : بما تستدعيه لو من الفعل، لأن لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض انتهى. وإنما يوحد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر، والحال، وعود الضمير متأخراً حكمة متقدماً، تقول : الماء والخشبة استوى، كما تقول : الماء استوى والخشبة
٤٧٣


الصفحة التالية
Icon