فسيبويه إنما اختار هذا التخريج لأنه أقل كلفة من النصب مع وجود الفاء، وليست الفاء الداخلة في خبر المبتدأ، لأن سيبويه لا يجيز ذلك في أل الموصولة. فالآيتان عنده من باب زيد فاضربه، فكما أن المختار في هذا الرفع فكذلك في الآيتين. وقول الرازي : لوجب أن يكون في القراء من قرأ :﴿وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ فَـاَاذُوهُمَا ﴾ بالنصب إلى آخر كلامه، لم يقل سيبويه أن النصب في مثل هذا التركيب أولى، فيلزم أن يكون في القراء من ينصب واللذان يأتيانها، بل حل سيبويه هذا الآية محل قوله : والسارق والسارقة، لأنه تقدم قبل ذلك ما يدل على المحذوف وهو قوله :﴿وَالَّـاتِى يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ﴾ فخرج سيبويه الآية على الإضمار. وقال سيبويه : وقد يجري هذا في زيد وعمرو على هذا الحد إذا
٤٨٠
كنت تخبر بأشياء، أو توصي، ثم تقول : زيد أي زيد فيمن أوصى فأحسن إليه وأكرمه، ويجوز في : واللذان يأتيانها منكم، أن يرتفع على الابتداء، والجملة التي فيها الفاء خبر لأنه موصول مستوف شروط الموصول الذي يجوز دخول الفاء في خبره لشبهه باسم الشرط، بخلاف قوله : والسارق والسارقة، فإنه لا يجوز عند سيبويه دخول الفاء في خبره، لأنه لا يجري مجرى اسم الشرط، فلا يشبه به في دخول الفاء.
قال الفخر الرازي : الثالث يعني : من وجوه فساد قول سيبويه إنا إنما قلنا السارق والسارقة مبتدأ، وخبره هو الذي يضمره، وهو قولنا : فيما يتلى عليكم، وفي شيء تتعلق به الفاء في قوله : فاقطعوا أيديهما. (قلت) : تقدم لنا حكمه المجيء بالفاء وما ربطت، وقد قدره سيبويه : ومما فرض عليكم السارق والسارقة، والمعنى : حكم السارق والسارقة، لأنها آية جاءت بعد ذكر جزاء المحاربين وأحكامهم، فناسب تقدير سيبويه. وجيء بالفاء رابطة الجملة الثانية بالأولى، والثانية جاءت موضحة للحكم المبهم فيما قبل ذلك. قال الفخر الرازي : فإن قال ـ يعني سيبويه ـ الفاء تتعلق بالفعل الذي دل عليه قوله : والسارق والسارقة، يعني : أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يده، فنقول : إذا احتجت في آخر الأمر أن تقول السارق والسارقة تقديره من سرق، فاذكر هذا أولاً حتى لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته. (قلت) : هذا لا يقوله سيبويه، وقد بينا حكم الفاء وفائدتها.
قال الفخر الرازي : الرابع : يعني من وجوه فساد قول سيبويه إذا اخترنا القراءة بالنصب، لم تدل على أنّ السرقة علة لوجوب القطع. وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى، ثم إنّ هذا المعنى متأكد بقوله : جزاء بما كسبت، فثبت أن القراءة بالرفع أولى. (قلت) : هذا عجيب من هذا الرجل، يزعم أنّ النصب لا يشعر بالعلة الموجبة للقطع ويفيدها الرفع، وهل هذا إلا من التعليل بالوصف المترتب عليه الحكم ؟ فلا فرق في ذلك بين الرفع والنصب لو قلت : السارق ليقطع، أو اقطع السارق، لم يكن بينهما فرق من حيث التعليل. وكذلك الزاني ليجلد، أو اجلد الزاني. ثم قوله : إن هذا المعنى متأكد بقوله : جزاء بما كسباً، والنصب أيضاً يحسن أن يؤكد بمثل هذا، لو قلت : اقطع اللص جزاء بما كسب صح.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٩
وقال الفخر الرازي : الخامس : يعني من وجوه فساد قول سيبويه، أن سيبويه قال : وهم يقدمون الأهم فالأهم. والذي هم ببيانه أعني : فالقراءة بالرفع تقتضي ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكون أكثر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث أنه سارق، وأمّا القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أثم من العناية بكونه سارقاً. ومعلوم أنه ليس كذلك، فإن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها، فثبت أنّ القراءة بالرفع هي المتعينة قطعاً. (قلت) : الذي ذكر فيه سيبويه أنهم كانوا يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعني هو ما اختلفت فيه نسبة الإسناد كالفاعل والمفعول. قال سيبويه : فإن قدمت المفعول وأخرت الفاعل جرى اللفظ كما جرى في الأول يعني : في ضرب عبد الله زيداً قال : وذلك ضرب زيداً عبد الله، لأنك إنما أردت به مؤخراً ما أردت به مقدماً، ولم ترد أن تشغل الفعل بأول منه وإن كان مؤخراً في اللفظ، فمن ثم كان حد اللفظ أن يكون فيه مقدماً، وهو عربي جيد كثير كأنهم يقدمون الذي بيانه لهم أهم، وهم ببيانه أعني : وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم انتهى.
والرازي حرف كلام سيبويه وأخذه حيث لا يتصور اختلاف نسبه وهو المبتدأ والخبر، فإنه ليس فيه إلا نسبة واحدة بخلاف الفاعل والمفعول، لأن المخاطب قد يكون له غرض في ذكر من صدر منه الضرب فيقدم الفاعل، أو في ذكر من حل به الضرب فيقدم المفعول، لأن نسبة الضرب مختلفة بالنظر إليهما. وأما الآية فهي من باب ما النسبة فيه لا تختلف، إنما هي
٤٨١


الصفحة التالية
Icon