جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥
ومن أعظم السحت الرشوة في الحكم، وهي المشار إليها في الآية. كان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. وعن الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها، وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب. وقرأ النحويان وابن كثير : السحت بضمتين. وقرأ باقي السبعة : بإسكان الحاء. وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع : بفتح السين وإسكان الحاء، وقرىء بفتحتين. وقرأ عبيد بن عمير : بكسر السين وإسكان الحاء، فبالضم والكسر والفتحتين اسم المسحوت كالدهن والرّعي والنبض، وبالفتح والسكون مصدر أريد به المفعول كالصيد بمعنى المصيد، أو سكنت الحاء طلباً للخفة.
﴿فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي فإن جاؤك للحكم بينهم فأنت مخير بين أن تحكم، أو تعرض. والظاهر بقاء هذا الحكم من التخيير لحكام المسلمين. وعن عطاء، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والأصم، وأبي مسلم، وأبي ثور : أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين، فإن شاؤا حكموا وإن شاؤا أعرضوا. وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وعطاء الخراساني، وعمر بن عبد العزيز، والزهري : التخيير منسوخ بقوله :﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾ فإذا جاؤوا فليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم. والمعنى عند غيرهم : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا اخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم. وعن أبي حنيفة : إنْ احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام، وأقيم الحدّ على الزاني بمسلمة، والسارق من مسلم. وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود، ويقولون : إنّ رجم اليهوديين كان قبل نزول الجزية. وقال ابن عطية : الأمة مجمعة على أنّ حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم، ويتسلط عليهم في تغيير، ومن ذلك حبس السلع المبيعة وغصب المال. فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم، ويتسلط عليهم في تغيير، ومن ذلك جنس السلع المبيعة وغصب المال. فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها، وإنما هي دعاء ومحتملة، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى. وفيه بعض تلخيص. وظاهر الآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم، ورضاهما يحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما. وقال ابن القاسم : لا بد مع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان، فإنْ رضي الأساقفة دون الخصمين، أو الخصمان دون الأساقفة، فليس له أن يحكم. وقال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والزهري، وغيرهم : فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين، ثم الآية تتناول سائر النوازل. وقال قوم : في قتيل اليهود من قريظة والنضير. وقال قوم : التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم. ومذهب الشافعي : أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا
٤٨٩
تحاكموا إليه، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم، بل يتخير في ذلك، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين. وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥
﴿وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْـاًا ﴾ أي أنت آمن من ضررهم، منصور عليهم على كل حال. وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم، فالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه، فأمنه الله منهم، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره.
﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ﴾ أي : وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين. والقسط : هو المبين في قوله :﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ﴾، وهو صلى الله عليه وسلّم لا يحكم إلا بالقسط، فهو أمر معناه الخبر أي : فحكمك لا يقع إلا بالعدل، لأنك معصوم من اتباع الهوى.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ وأنت سيدهم، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم. وفيه حث على توخي القسط وإيثاره، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به.


الصفحة التالية
Icon