ويجوز أن يراد الكتابة حقيقة، وهي الكتابة في الألواح، لأن التوراة مكتوبة في الألواح، والضمير في فيها عائد على التوراة، وفي : عليهم، على الذين هادوا. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم : بنصب، والعين وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل أنّ النصب، وخبر أنّ هو المجرور، وخبر والجروح قصاص. وقدَّر أبو عليّ العامل في المجرور مأخوذ بالنفس إلى آخر المجرورات، وقدره الزمخشري أولاً : مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق، وكذلك العين مفقوأة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مأخوذة مقطوعة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن. وينبغي أن يحمل قول الزمخشري : مقتولة ومفقوأة ومجدوع مقطوعة على أنه تفسير المعنى لا تفسير الإعراب، لأن المجرور إذا وقع خبراً لا بد أن يكون العامل فيه كوناً مطلقاً، لا كوناً مقيداً. والباء هنا باء المقابلة والمعاوضة، فقدر ما يقرب من الكون المطلق وهو مأخوذ. فإذا قلت : بعت الشاء شاة بدرهم، فالمعنى مأخوذ بدرهم، وكذلك الحر بالحر، والعبد بالعبد. التقدير : الحر مأخوذ بالحر، والعبد مأخوذ بالعبد. وكذلك هذا الثوب بهذا الدرهم معناه مأخوذ بهذا الدرهم. وقال الحوفي : بالنفس يتعلق بفعل محذوف تقديره : يجب، أو يستقر. وكذا العين بالعين وما بعدها مقدر الكون المطلق، والمعنى : يستقر قتلها بقتل النفس. وقرأ الكسائي : برفع والعين وما بعدها. وأجاز أبو عليّ في توجيه الرفع وجوهاً. الأول : أنّ الواو عاطفة جملة على جملة، كما تعطف مفرداً على مفرد، فيكون والعين بالعين جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية وهي : وكتبنا، فلا تكون تلك الجمل مندرجة تحت كتبنا من حيث اللفظ، ولا من حيث التشريك في معنى الكتب، بل ذلك استئناف إيجاب وابتداء تشريع. الثاني : أنّ الواو عاطفة جملة على المعنى في قوله : إن النفس بالنفس، أي : قل لهم النفس بالنفس، وهذا العطف هو من العطف على التوهم، إذ يوهم في قوله : إن النفس بالنفس، إنه النفس بالنفس، والجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ. الثالث : أن تكون الواو عاطفة مفرداً على مفرد، وهو أن يكون : والعين معطوفاً على الضمير المستكن في الجار والمجرور، أي بالنفس هي والعين وكذلك ما بعدها. وتكون المجرورات على هذا أحوالاً مبينة للمعنى، لأن المرفوع على هذا فاعل، إذ عطف على فاعل.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥
وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان : لأن الأول منهما هو المعطوف على التوهم، وهو لا ينقاس، إنما يقال منه ما سمع. والثاني منهما فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير فصل بينه وبين حرف العطف، ولا بين حرف العطف والمعطوف بلا، وذلك لا يجوز عند البصريين
٤٩٤
إلا في الضرورة، وفيه لزوم هذه الأحوال. والأصل في الحال أن لا تكون لازمة. وقال الزمخشري : الرفع للعطف على محل : أنّ النفس، لأن المعنى : وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، وإما أنّ معنى الجملة التي هي قولك : النفس بالنفس، مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة يقول : كتبت الحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها. وكذلك قال الزجاج : لو قرىء أنّ النفس لكان صحيحاً انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري هو الوجه الثاني من توجيه أبي علي، إلا أنه خرج عن المصطلح فيه، وهو أن مثل هذا لا يسمى عطفاً على المحل، لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع، وهذا ليس من العطف على الموضع، لأن العطف على الموضع هو محصور وليس هذا منه، وإنما هو عطف على التوهم. ألا ترى أنا لا نقول أن قوله : إنّ النفس بالنفس في موضع رفع، لأن طالب الرفع مفقود، بل نقول : إنّ المصدر المنسبك من أنّ واسمها وخبرها لفظه وموضعه واحد وهو النصب، والتقدير : وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس، إمّا لإجراء كتبنا مجرى قلنا، فحكيت بها الجملة : وإمّا لأنهما مما يصلح أن يتسلط الكتب فيها نفسه على الجملة لأنّ الجمل مما تكتب كما تكتب المفردات، ولا نقول : إن موضع أنّ النفس بالنفس وقع بهذا الاعتبار.


الصفحة التالية
Icon