ظاهرة. ولما كانت أشد وجوه المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك، أعاد الله ذكر الهدى تقريراً وبياناً لنبوّة محمدصلى الله عليه وسلّم، ووصفه بالموعظة لاشتماله على نصائح وزواجر بليغة، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها، كما قال تعالى :﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ فهم المقصودون في علم الله تعالى، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله : وليحكم. قال : كأنه قيل : وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام. وينبغي أن يكون الهدي والموعظة مسندين في المعنى إلى الله، لا إلى الإنجيل، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل، ولذلك جاء منصوباً. ولما كان : وليحكم، فاعله غير الله، أتى معدي إليه بلام العلة. ولاختلاف الزمان أيضاً، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء، فعدى أيضاً لذلك باللام، وهذا الذي أجازه الزمخشري خلاف الظاهر. قال الزمخشري : فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدّقاً فما تصنع بقوله : وليحكم ؟ (قلت) : أصنع به كما صنعت بهدى وموعظة، حين جعلتهما مفعولاً لهما، فأقدر : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى. وهو جواب واضح.
﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾ أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية، وقلنا لهم : احكموا، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع، أو بما أنزل الله فيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو قول الأصم، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره. فالمعنى : وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه، وهذا بعيد. وظاهر الأمر يرد قول من قال : إن عيسى كان متعبداً بأحكام التوراة. وقال تعالى :﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ولهذا القائل أن يقول : بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة. والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة، وهنما أكثره زواجر. وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراة أمروا بالعمل بها، ولهذا جاء :﴿وَلاحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥
وقرأ الجمهور : وليحكم بلام الأمر ساكنة، وبعض القراء يكسرها. وقرأ أبيّ : وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي، وتقدّم كلام الزمخشري فيما يتعلق به. وقال ابن عطية : والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه انتهى. فعطف وليحكم على توهم علة ولذلك قال : ليتضمن الهدى. والزمخشري جعله معطوفاً على هدى وموعظة، على توهم النطق باللام فيهما كأنه قال : وللهدي والموعظة وللحكم أي : جعله مقطوعاً مما قبله، وقدر العامل مؤخراً أي : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه. وقول الزمخشري أقرب إلى الصواب، لأن الهدي الأول والنور والتصديق لم يؤت بها على سبيل العلة، إنما جيء بقوله : فيه هدى ونور، على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً، وهذا معنى الحال، والحال لا يكون علة. فقول ابن عطية : ليتضمن كيت وكيت، وليحكم، بعيد.
﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوالَـا ئِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ﴾ ناسب هنا ذكر الفسق، لأنه خرج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله : وليحكم، وهو أمر. كما قال تعالى :﴿اسْجُدُوا لادَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِا﴾ أي : خرج عن طاعة أمره تعالى. فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين، والثانية بالظالمين، والثالثة بالفاسقين. وقال ابن عطية : وتكرير هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التوكيد، وأصوب ما يقال فيها : أنها تعم كل مؤمن وكافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها. وقال القفال : هي لموصوف واحد كما تقول : من أطاع الله فهو البر، ومن أطاع فهو المؤمن، ومن أطاع فهو المتقي. وقيل : الأول في الجاحد، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم : الأول والثاني في اليهود، والثالث في النصارى. وعلى قول ابن عطية يعم كل كافر ومؤمن، يكون إطلاق الكافرين والظالمين والفاسقين عليهم للاشتراك في قدر مشترك.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥


الصفحة التالية
Icon