﴿عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ الذي هو القرآن. وضمن تتبع معنى تنحرف، أو تنصرف، فلذلك عدي بعن أي : لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم، أو بسبب أهوائهم. وقال أبو البقاء : عما جاءك في موضع الحال أي : عادلاً عما جاءك، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن، وهذا ليس بجيد. لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجنة، كما لا يصلح أن يكون خبراً، وإذا كان ناقصاً فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق، والكون المقيد لا يجوز حذفه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ الظاهر أنّ المضاف إليه كل المحذوف هو : أمة أي : لكل أمّة. والخطاب في منكم للناس أي : أيها الناس لليهود شرعة ومنهاج، وللنصارى كذلك، قاله : عليّ، وقتادة والجمهور، ويعنون في الأحكام. وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد، وإيمان بالرسل، وكتبها وما تضمنته من المعاد، والجزاء الأخروي. وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال :﴿أُوالَئاِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ والمعنى في المعتقدات. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء، لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيهاً لمحمد صلى الله عليه وسلّم أي : فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه انتهى. فيكون المحذوف المضاف إليه لكلّ نبي، أي : لكل نبيّ منكم أيها الأنبياء. والشرعة والمنهاج لفظان لمعنى واحد أي : طريقاً، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر :
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وقال ابن
٥٠٢
عباس والحسن وغيرهما : سبيلاً وسنة. وقال مجاهد : الشرعة والمنهاج دين محمد صلى الله عليه وسلّم، فيكون المعنى لكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه، والمراد بذلك إنّا أمرناكم باتباع دين محمد إذ هو ناسخ للأديان كلها. وقال المبرد : الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر. وقال ابن الأنباري : الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحاً وغير واضح، والمنهاج لا يكون إلا واضحاً. وقيل : الشرعة الدين، والمنهاج الدليل. وقيل : الشرعة النبي، والمنهاج الكتاب. قال ابن عطية : والمنهاج بناء مبالغة من النهج، ويحتمل أن يراد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي هو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد انتهى. قيل : وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا. وقرأ النخعي وابن وثاب : شَرعة بفتح الشين، والظاهر أنّ جعلنا بمعنى صيرنا، ومفعولها الثاني هو لكل، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره : أعني منكم. قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل، لأنَّ ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام، ويوجب أيضاً أن يفصل بين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى. فيكون في التركيب كقولك : من كل ضربت تميمي رجلاً، وهو لا يجوز.
﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في الضلال. وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥
﴿وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ﴾ أي : ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب. وقال الزمخشري : من الشرائع المختلفة، هل تعلمون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة، أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل انتهى ؟ وقال ابن جريج وغيره : ولكنه لم يشأ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع، فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر.
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ أي ابتدروا الأعمال الصالحة قاله : مقاتل. وهي التي عاقبتها أحسن الأشياء. وقال ابن عباس والضحاك : الخيرات الإيمان بالرسول.
﴿إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات، كأنه يقول : يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته.
﴿فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي فيخبركم بأعمالكم، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب، وهو أخبار إيقاع. قال ابن جرير : قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج، وغداً يبينه بالمجازاة انتهى. وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل، والمسبق والمقصر في العمل. ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٥


الصفحة التالية
Icon