وامتنانه على عالم الإنسان بما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته، وبين ذلك ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ﴿لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ ذكر ما عاملوا به منشئهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته، ونسبه ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات، وقال الكلبي : نزلت في الزنادقة قالوا إن الله خالق الناس والدواب وإبليس خالق الحيات والعقارب والسباع ويقرب من هذا قول المجوس قالوا : للعالم صانعان إله قديم، والثاني : شيطان حادث من فكرة الإله القديم، وكذلك الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط زعموا أن للعالم صانعين الإله القديم والآخر محدث خلقه الله أولاً ثم فوض إليه تدبير العالم، وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة والضمير في ﴿وَجَعَلُوا ﴾ عائد على الكفار لأنهم مشركون وأهل كتاب، وقيل : هو عائد على عبدة الأوثان والنصارى قالت : المسيح ابن الله واليهود قالوا : عزير ابن الله وطوائف من العرب جعلوا لله تعالى بنات الملائكة وبنو مدلج زعموا أن الله تعالى صاهر الجن فولدت له الملائكة، وقد قيل : إن من الملائكة طائفة يسمون الجن وإبليس ومنهم وهم خدم الجنة، وقال الحسن : هذه الطوائف كلها أطاعوا الشيطان في عبادة الأوثان واعتقدوا الإلهية فيمن ليست له، فجعلوهم شركاء لله في العبادة وظاهر الكلام أنهم جعلوا لله شركاء الجن أنفسهم، وما قاله الحسن مخالف لهذا الظاهر، إذ ظاهر كلامه أن الشركاء هي الأوثان وأنه جعلت طاعة الشيطان تشريكاً له مع الله تعالى إذ كان التشريك ناشئاً عن أمره وإغوائه وكذا قال إسماعيل الضرير : أراد بالجن إبليس أمرهم فأطاعوه، وظاهر لفظ الجن أنهم الذين يتبادر إليهم الذهن من أنهم قسيم الإنس في قوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ﴾ وأنهم ليسوا الملائكة لقوله :﴿يَقُولُ لِلْمَلَئاِكَةِ أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ قالوا : سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن، فالآية مشيرة إلى الذين جعلوا الجن شركاء لله في عبادتهم إياهم وأنهم يعلمون الغيب، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها، والجمهور على نصب
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٣
﴿الْجِنَّ﴾ وأعربه الزمخشري وابن عطية مفعولاً أولاً بجعلوا ﴿وَجَعَلُوا ﴾ بمعنى صيروا مفعول ثان ولله متعلق بشركاء، قال الزمخشري (فإن قلت) : فما فائدة التقديم (قلت) : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء انتهى، وأجاز الحوفي وأبو البقاء فيه أن يكون الجن بدلاً من ﴿لِلَّهِ شُرَكَآءَ﴾ و﴿لِّلَّهِ﴾ في موضع المفعول الثاني و﴿شُرَكَآءَ﴾ هو المفعول الأول وما أجازاه لا يجوز، لأنه يصح للبدل أن يحل محل المبدل منه فيكون الكلام منتظماً لو قلت وجعلوا لله الجن لم يصح وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول : وهذا لا يصح هنا البتة كما ذكرنا وأجاز الحوفي أن يكون شركاء المفعول الأول والجن المفعول الثاني كما هو ترتيب النظم، وأجاز أبو البقاء أن يكون ﴿لِلَّهِ شُرَكَآءَ﴾ حالاً وكان لو تأخر للشركاء وأحسن مما أعربوه ما سمعت من أستاذنا العلامة أبي جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير الثقفي يقول فيه قال انتصب الجن على إضمار فعل جواب سؤال مقدّر كأنه قيل من ﴿جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ﴾ قيل : الجن أي جعلوا الجن ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن جواباً لمن قال : من الذي جعلوه شريكاً فقيل له : هم الجن ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والانتقاص لمن جعلوه شريكاً لله. وقرأ شعيب بن أبي حمزة : الجن بخفض النون ورويت هذه عن أبي حيوة وابن قطيب أيضاً، قال الزمخشري : وقرىء على الإضافة
١٩٣


الصفحة التالية
Icon