﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ يلطف عن أن تدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَـارَ﴾ لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللف انتهى، وهو على مذهبه الاعتزالي وتظافرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم برؤية المؤمنين الله في الآخرة، وقد اختلفوا هل رآه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الدنيا ببصره ليلة المعراج ؟ فذهب جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين إلى إنكار ذلك، وقالت عائشة وابن مسعود وأبو هريرة على خلاف عنهما بذلك، وذهب ابن عباس وكعب والحسن وعكرمة وأحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وجماعة من الصحابة إلى أنه رآه ببصره وعيني رأسه، وروي هذا عن ابن مسعود وأبي هريرة والأول عن ابن مسعود أشهر، وقيل :﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الابْصَـارَ﴾ معناه لا يخفى عليه شيء وخص الأبصار لتجنيس الكلام يعني المقابلة، وقال الزجاج : في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر الذي صار به الإنسان مبصراً من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه :﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ قال أبو العالية : لطيف باستخراج الأشياء خبير بأماكنها.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٣
﴿قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ هذا وارد على لسان الرسول لقوله آخره ﴿وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ والبصيرة نور القلب الذي يستبصر به كما أن البصر نور العين الذي به تبصرأي جاءكم من الوحي والتنبيه بما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر قاله الزمخشري، وقال ابن عطية : البصيرة هي ما ينقب عن تحصيل العقل للأشياء المنظور فيها بالاعتبار فكأنه قال : قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق والمعينة عليه والبصيرة للقلب مستعارة من إبصار العين، وقال الحوفي : البصيرة الحجة البينة الظاهرة كما قال تعالى :﴿أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ ﴿بَلِ الانسَـانُ عَلَى نَفْسِهِا بَصِيرَةٌ﴾، وقال الكلبي : البصائر آيات القرآن التي فيها الإيضاح والبينات والتنبيه على ما يجوز عليه وعلى ما يستحيل وإسناد المجيء إلى البصائر مجاز لتفخيم شأنها إذا كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره كما يقال جاءت العافية.
﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِا﴾ أي فالإبصار لنفسه أي نفعه وثمرته.
﴿وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا ﴾ أي فالعمى عليها أي فجدوى العمى عائد على نفسه والإبصار والعمى كنايتان عن الهدى والضلال، والمعنى أن ثمرة الهدى والضلال إنما هي للمهتدي والضال لأنه تعالى غني عن خلقه، وهي من الكنايات الحسنة لما ذكر البصائر أعقبها تعالى بالإبصار والعمى وهذه مطابقة، وقدره الزمخشري ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ﴾ الحق وآمن ﴿فَلِنَفْسِهِا﴾ أبصر وإيّاها نفع ﴿وَمَنْ عَمِىَ﴾ عنه فعلى نفسه عمي والذي قدرناه من المصدر أولى وهو فالإبصار والعمى لوجهين : أحدهما : أن المحذوف يكون مفرداً لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة، وفي تقديره هو المحذوف جملة والجار والمجرور فضلة، والثاني : وهو أقوى وذلك أنه لو كان التقدير فعلاً لم تدخل الفاء سواء كانت من شرطاً أم موصولة مشبهة
١٩٦
بالشرط لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دعاء ولا جامداً ووقع جواب شرط أو خبر مبتدأ مشبه باسم الشرط لم تدخل الفاء في جواب الشرط ولا في خبر المبتدأ، لو قلت : من جاءني فأكرمته لم يجز بخلاف تقديرنا فإنه لا بد فيه من الفاء ولا يجوز حذفها إلا في الشعر وقال أبو عبد الله الرازي : البصيرة اسم الإدراك التام الحاصل في القلب والآيات المتقدمة ليست في أنفسها بصائر إلا أنها لقوتها وجلائها توجب البصائر لمن عرفها، فلما كانت أسباباً لحصول البصائر سميت بصائر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٣
﴿وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ أي برقيب أحصر أعمالكم أو بوكيل آخذكم بالإيمان أو بحافظكم من عذاب الله أو برب أجازيكم أو بشاهد أقوال رابعها للحسن وخامسها للزجاج، وقال الزمخشري :﴿بِحَفِيظٍ﴾ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم. انتهى، وهو بسط قول الحسن، وقال ابن عطية : كان قبل ظهور الإسلام ثم بعد ذلك كان حفيظاً على العالم آخذاً لهم بالإسلام والسيف.
﴿وَكَذَالِكَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ﴾ أي ومثل ما بينا تلك الآيات التي هي بصائر وصرفناها نصرف الآيات ونرددها على وجوه كثيرة.


الصفحة التالية
Icon