﴿وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ وَأَبْصَـارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ الظاهر أن قوله :﴿وَنُقَلِّبُ﴾ جملة استئنافية أخبر تعالى أنه يفعل بهم ذلك وهي إشارة إلى الحيرة والتردد وصرف الشيء عن وجهه. والمعنى أنه تعالى يحولهم عن الهدى ويتركهم في الضلال والكفر. وكما للتعليل أي يفعل بهم ذلك لكونهم لم يؤمنوا به أول وقت جاءهم هدى الله كما قال تعالى :﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَـافِرُونَ﴾ ويؤكد هذا المعنى آخر الآية ﴿وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي ونتركهم في تغمطهم في الشرِّ والإفراط فيه يتحيرون، وهذا كله إخبار من الله تعالى بفعله بهم في الدنيا. وقالت فرقة : هذا الإخبار هو على تقدير : أنه لو جاءت الآية التي اقترحوها صنعنا بهم ذلك. ولذلك قال الزمخشري ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ﴾ ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ عطف على ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ داخل في حكم ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ بمعنى وما يشعركم أنهم لا يؤمنون ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ إنا ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ وَأَبْصَـارَهُمْ﴾ أي فنطبع على أبصارهم وقلوبهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا أولاً لا يؤمنون بها، لكونهم ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ إنا ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـانِهِمْ﴾ أي نخليهم وشأنهم لا نكفهم ونصرفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه انتهى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٣
وهذا معنى ما قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد قالوا : لو أتيناهم بآية كما سألوا لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها، وحلتا بينهم وبين الهدى فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها، عقوبة لهم على ذلك. والفرق بين هذا القول والذي بدأنا به أولاً أن ذلك استئناف إخبار بما يفعل بهم تعالى في الدنيا. وهذا إخبار على تقدير مجيء الآية المقترحة فذلك واقع وهذا غير واقع، لأن الآية المقترحة لم تقع فلم يقع ما رتب عليها.
وقال مقاتل : نقلب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان وعن الآيات كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات.
وقيل : تقليبها بإزعاج نفوسهم همّاً وغمّاً.
وقال الكرماني : مغناه أنّا نحيط علماً بذات الصدور وخائنة الأعين منهم انتهى.
ولا يستقيم هذا التفسير لقوله :﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ لا على التعليل ولا على التشبيه إلا أن جعل متعلقاً بقوله ﴿إِذَا جَآءَتْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ أي ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ فيصح على بعد في تفسير التقليب بإحاطة العلم.
وقال الكعبي : المراد أنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن الهداية بسبب الكفر انتهى.
وهو على طريقة الاعتزالي ومعنى تقليب القلب والبصر ما ينشأ عن القلب والبصر من الدواعي إلى الحيرة والضلال، لأن القلب والبصر يتقلبان بأنفسهما فنسبة التقليب إليهما مجاز. وقدمت الأفئدة لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى، وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف البصر عنه وإن كان تحدق النظر إليه ظاهراً وهذه التفاسير على أن ذلك في الدنيا.
وقالت فرقة : إن ذلك إخبار من الله تعالى يفعل بهم ذلك في الآخرة.
فروي عن ابن عباس أنه جواب لسؤالهم
٢٠٣
في الآخرة الرجوع إلى الدنيا. والمعنى لو ردّوا لحلنا بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا انتهى. وهذا ينبو عنه تركيب الكلام.
وقيل : تقليبها في النار في جهنم على لهيبها وجمرها ليعذبوا ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ يعني في الدنيا وقاله الجبائي.
وقال أبو الهذيل : تقليب أفئدتهم بلوغها الحناجر كما قال تعالى :﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٣
وقيل : تقليب أبصارهم إلى الزرقة وحمل ذلك على أنه في الآخرة ضعيف قلق النظم، لأن التقليب في الآخرة وتركهم في الطغيان في الدنيا، فيختلف الظرفان من غير دليل على اختلافهما، بل الظاهر أن ذلك إخبار مستأنف كما قررناه أولاً، والكاف في كما ذكرنا أنها للتعليل، وهو واضح فيها وإن كان استعمالها فيه قليلاً. وقالت فرقة كما : هي بمعنى المجازاة أي لما ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ نجاريهم بأن ﴿وَلا أَفْـاِدَتُهُم﴾ عن الهدى ونطيع على قلوبهم. فكأنه قال : ونحن نقلب أفئدتهم وأبصارهم جزاء لما ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ بما دعوا إليه من الشرع. قاله ابن عطية، وهو معنى التعليل الذي ذكرناه إلا أنّ تسمية ذلك بمعنى المجازاة غريبة، لا يعهد في كلام النحويين أنّ الكاف للمجازاة. قيل : للتشبه


الصفحة التالية
Icon