﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا ﴾ لما تقدّم من أول السورة إلى هنا دلائل التوحيد والنبوة والبعث والطعن على مخالفي ذلك وكان من هنا إلى آخر السورة أحكام وقصص، ناسب ذكر هذه الآيات هنا أي تمت أقضيته وأقداره قاله ابن عباس. وقال قتادة : كلماته هو القرآن، وقال الزمخشري : كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد. وقال الحسن : صدقاً في الوعد وعدلاً في الوعيد. وقيل : في ما تضمن من خبر وحكم أو فيما كان وما يكون، أو فيما أمر وما نهى أو في الترغيب والترهيب أو فيما قال : هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار أو في الثواب والعقاب أو في نصرة أوليائه وخذلان أعدائه، أو في نصرة الرسول ببدر وإهلاك أعدائه أو في الإرشاد والإضلال أو في الغفران والتعذيب، أو في الفضل والمنع أو في توسيع الرزق وتقتيره أو في إعطائه وبلائه وهذه الأقوال أول القول فسر به الصدق والمعطوف فسر به العدل، وأعرب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء ﴿صِدْقًا وَعَدْلا ﴾ مصدرين في موضع الحال والطبري تمييزاً وجوزه أبو البقاء. وقال ابن عطية : هو غير صواب وزاد أبو البقاء مفعولاً من أجله وليس المعنى في ﴿تَمُتْ﴾ أنها كان بها نقص فكملت وإنما المعنى استمرت وصحت كما جاء في الحديث :"وتم حمزة على إسلامه". وكقوله تعالى :﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ أي استمرت وهي عبارة عن نفوذ أقضيته. وقرأ الكوفيون هنا كلمة بالإفراد ونافع جميع ذلك ﴿كَلِمَـاتُ﴾ بالجمع تابعه أبو عمرو وابن كثير هنا.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٤
﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِهِ﴾ أي لا مغير
٢٠٩
لأقضيته ولا مبدل لكلمات القرآن فلا يلحقها تغيير، لا في المعنى ولا في اللفظ وفي حرف أبي لا مبدل لكلمات الله.
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ أي السميع لأقوالكم العليم بالضمائر.
﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي وإن توافق فيما هم عليه من عبادة غير الله وشرع ما شرعوه بغير إذن الله أكثر لأن الأكثر إذ ذاك كانوا كفاراً، والأرض هنا الدنيا قاله ابن عباس. وقيل : أكثر من في الأرض رؤساء مكة والأرض خاص بأرض مكة وكثيراً ما ذم الأكثر في كتابه والغالب أنه لا يقال الأكثر إلا للذين يتبعون أهواءهم.
﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ﴾ أي ليسوا راجعين في عقائدهم إلى علم ولا فيما شرعوه إلى حكم الله.
﴿وَإِنْ هُمْ إِلا﴾ أي يقدرون ويحزرون وهذا تأكيد لما قبله. ومن المفسرين من خص هذه الطاعة واتباعهم الظن وتخرصهم بأمر الذبائح، وحكي أن سبب النزول مجادلة المشركين الرسول في أمر الذبائح وقولهم : نأكل ما تقتل ولا نأكل ما قتل الله فنزلت مخبرة أنهم يقدرون بظنونهم وبخرصهم.
﴿يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِا وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ لما ذكر تعالى يضلوك عن سبيل الله أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي، والمعنى أنه أعلم بهم وبك فإنهم الضالون وأنت المهتدي و﴿مِنْ﴾ قيل في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله، وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر نحو زيد أضرب السيف أي بالسيف. وقال أبو الفتح : في موضع نصب بأعلم بعد حذف حر الجر وهذا ليس بجيد، لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به، وقال أبو علي : في موضع نصب بفعل محذوف أي يعلم من يضل ودل على حذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد.
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
أي تضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها ﴿يُضِلَّ﴾ وجوز أبو البقاء أن تكون موصوفة بالفعل. وقال الكسائي والمبرد والزجاج ومكي في موضع رفع وهي استفهامية مبتدأ والخبر ﴿يُضِلَّ﴾ والجملة في موضع نصب بأعلم أي أعلم أي الناس يضل كقوله ﴿لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ﴾ وهذا ضعيف لأن التعليق فرع عن جواز العمل وأفعل التفضيل لا يعمل في المفعول به فلا يعلق عنه، والكوفيون يجيزون إعمال أفعل التفضيل في المفعول به والرد عليهم في كتب النحو. وقرأ الحسن وأحمد أبي شريح ﴿يُضِلَّ﴾ بضم الياء وفاعل ﴿يُضِلَّ﴾ ضمير من ومفعوله محذوف أي من يضل الناس أو ضمير الله على معنى يجده ضالاً أو يخلق فيه الضلال، وهذه الجملة خبرية تتضمن الوعيد والوعد لأن كونه تعالى عالماً بالضال والمهتدي كناية عن مجازاتهما.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٠٤


الصفحة التالية
Icon