﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي لا أحد ﴿أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فنسب إليه تحريم ما لم يحرمه الله تعالى، فلم يقتصر على افتراء الكذب في حق نفسه وضلالها حتى قصد بذلك ضلال غيره فسنّ هذه السنة الشنعاء وغايته بها إضلال الناس فعليه وزرها ووزر من عمل بها.
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ﴾ نفي هداية من وجد منه الظلم وكان من فيه الأظلمية أولى بأن لا يهديه وهذا عموم في الظاهر، وقد تبين تخصيصه من ما يقتضيه الشرع.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٤
﴿قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُا إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّه رِجْسٌ أَوْ﴾ لما ذكر
٢٤٠
أنهم حرموا ما حرموا افتراء على الله، أمره تعالى أن يخبرهم بأن مدرك التحريم إنما هو بالوحي من الله تعالى وبشرعه لا بما تهوي الأنفس وما تختلقه على الله تعالى، وجاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة والمائدة وجاء هنا هذه المحرمات منكرة والدم موصوف بقوله :﴿مَّسْفُوحًا﴾ والفسق موصوفاً بقوله :﴿أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِا﴾ وفي تينك السورتين معرفاً لأن هذه السورة مكية فعلق بالتنكير، وتانك السورتان مدنيتان فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد حوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة. وروي عن ابن عامر ﴿مَآ أُوحِىَ﴾ بفتح الهمزة والحاء جعله فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل و﴿مُحَرَّمًا﴾ صفة لمحذوف تقديره مطعوماً ودل عليه قوله ﴿عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُا﴾ ويطعمه صفة لطاعم. وقرأ الباقر بتشديد الطاء وكسر العين والأصل يطتعمه أبدلت تاؤه طاء وأدغمت فيها فاء الكلمة. وقرأت عائشة وأصحاب عبد الله ومحمد بن الحنفية تطعمه بفعل ماض وإلا أن يكون استثناء منقطع لأنه كون وما قبله عين، ويجوز أن يكون نصبه بدلاً على لغة تميم ونصباً على الاستثناء على لغة الحجاز. وقرأ الابنان وحمزة إلا أن تكون بالتاء وابن كثير وحمزة ﴿يَكُونَ مَيْتَةً﴾ بالنصب واسم ﴿يَكُونَ﴾ مضمر يعود على قوله :﴿مُحَرَّمًا﴾ وأنث لتأنيث الخبر. وقرأ ابن عامر ﴿مَيْتَةً﴾ بالرفع جعل كان تامة. وقرأ الباقون بالياء ونصب ﴿مَيْتَةً﴾ واسم كان ضمير مذكر يعود على ﴿مُحَرَّمًا﴾ أي ﴿إِلا أَن يَكُونَ﴾ المحرم ﴿مَيْتَةً﴾ وعلى قراءة ابن عامر وهي قراءة أبي جعفر فيما ذكر مكي يكون قوله :﴿أَوْ مَا﴾ معطوفاً على موضع ﴿أَن يَكُونَ﴾ وعلى قراءة غيره، يكون معطوفاً على قوله :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٤
﴿مَيْتَةً﴾ ومعنى ﴿مَّسْفُوحًا﴾ مصبوباً سائلاً كالدم في العروق لا كالطحال والككبد، وقد رخص في دم العروق بعد الذبح. وقيل لأبي مجلز : القدر تعلوها الحمرة من الدم. فقال : إنما حرم الله تعالى المسفوح وقالت : نحوه عائشة وعليه إجماع العلماء. وقيل : الدم حرام لأنه إذا زايل فقد سفح. والظاهر أن الضمير في ﴿فَإِنَّهُا﴾ عائد على ﴿لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾ وزعم أبو محمد بن حزم أنه عائد على ﴿خِنزِيرٍ﴾ فإنه أقرب مذكور، وإذا احتمل الضمير العود على شيئين كان عوده على الأقرب أرجح وعورض بأن المحدث عنه إنما هو اللحم، وجاء ذكر ﴿الْخِنزِيرِ﴾ على سبيل الإضافة إليه لا أنه هو المحدث عنه المعطوف، ويمكن أن يقال : ذكر اللحم تنبيهاً على أنه أعظم ما ينتفع به من الخنزير وإن كان سائره مشاركاً له في التحريم بالتنصيص على العلة من كونه رجساً أو لإطلاق الأكثر على كله أو الأصل على التابع لأن الشحم وغيره تابع للحم. واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة ؟ وهو قول الشعبي وابن جبير فعلى هذا لا شيء محرم من الحيوان إلا فيها وليس هذا مذهب الجمهور. وقيل : هي منسوخة بآية المائدة، وينبغي أن يفهم هذا النسخ بأنه نسخ للحصر فقط. وقيل : جميع ما حرم داخل في الاستثناء سواء كان بنص قرآن أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلّم بالاشتراك في العلة التي هي الرجسية والذي نقوله : إن الآية مكية وجاءت عقيب قوله :﴿ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ وكان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي من هذه الثمانية، فالآية
٢٤١


الصفحة التالية
Icon