﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ وقرأ ابن أبي عبلة إن الله جعل مكان المضمر المظهر وهذا اللفظ عام يدخل فيه أوّلاً الدعاء على غير هذين الوجهين من عدم التضرّع وعدم الخفية بأن يدعوه وهو ملتبس بالكبر والزهو أو أن ذلك دأبه في المواعيد والمدارس فصار ذلك له صنعة وعادة فلا يلحقه تضرّع ولا تذلل وبأن يدعوه بالجهر البليغ والصياح كدعاء الناس عند الاجتماع في المشاهد والمزارات، وقال العلماء الاعتداء في الدعاء على وجوه منها الجهر الكثير والصّياح وأن يدعو أن يكون له منزلة نبي وأن يدعو بمحال ونحوه من الشّطط وأن يدعو طالب معصية، وقال ابن جريج والكلبي الاعتداء رفع الصوت بالدعاء وعنه الصّياح في الدعاء مكروه وبدعة وقيل هو الإسهاب في الدعاء قال القرطبي وقد ذكر وجوهاً من الاعتداء في الدعاء قال : ومنها أن يدعو بما ليس في الكتاب العزيز ولا في السّنة فيتخير ألفاظاً مقفاة وكلمات مسجعة وقد وجدها في كراريس لهؤلاء يعني المشايخ لا معوّل عليها في فيجعلها شعاره يترك ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكل هذا يمنع من استجابة الدّاء، وقال ابن جبير : الاعتداء في الدّعاء أن يدعو على المؤمنين بالخزي والشّرك واللعنة، وفي سنن ابن ماجة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال : أي بني سل الله الجنة وعُذْ به من النار فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول :"سيكون قوم يعتدون في الدعاء" زاد ابن عطية والزمخشري في هذا الحديث "وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل" ثم قرأ ﴿إِنَّه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾. هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من
٣١١
إيقاع الفساد في الأرض وإدخال ماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والأديان ومعنى ﴿بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا ﴾ بعد أنْ أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وما روي عن المفسّرين من تعيين نوع الإفساد والإصلاح ينبغي أن يحمل ذلك على التمثيل إذا ادّعاءه تخصيص شيء من ذلك لا دليل عليه كالظلم بعد العدل أو الكفر بعد الإيمان أو المعصية بعد الطاعة أو بالمعصية فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بعد إصلاحها بالمطر والخصب أو يقتل المؤمن بعد بقائه أو بتكذيب الرّسل بعد الوحي أو بتغوير الماء المعين وقطع الشجر والثمر ضراراً أو يقطع الدنانير والدراهم أو بتجارة الحكام أو بالإشراك بالله بعد بعثة الرسل وتقرير الشرائع وإيضاح الملة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٠
﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ لما كان الدّعاء من الله بمكان كرره فقال أولاً ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوت ليست من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين فبدأ أوّلاً بأفعال الجوارح ثم ثانياً بأفعال القلوب وانتصب ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين ليكونا للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة فإن انفرد أحدهما هلك الإنسان وقد قال كثير من العلماء : ينبغي أن يغلب الخوف الرّجاء طول الحياة فإذا جاء الموت غلب الرّجاء ورأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب ومنه تمنى الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة وتمنّى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأنّ مذهبه أنهم مذنبون وسالم هذا من رتبة الدّين والفضل بحيث قال عمر بن الخطاب كلاماً معناه لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته الخلافة وأبعد من ذهب إلى أن المعنى خوفاً من الردّ وطمعاً في الإجابة.
﴿وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا﴾ قال الزمخشري : كقوله :﴿وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا﴾، انتهى. يعني أنّ الرحمة مختصة بالمحسن وهو من تاب وآمن وعمل صالحاً وهذا كله حمل القرآن وإنما على مذهبه من الاعتزال والرحمة مؤنثة فقياسها أن يخبر عنها إخبار
٣١٢


الصفحة التالية
Icon