الظاهر النهي عن القعود بكل طريق لهم عن ما كانوا يفعلونه من إيعاد الناس وصدّهم عن طريق الدّين، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدّي : كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون : إنه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت تفعله قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال السدّي : هذا نهي العشارين والمتقبلين ونحوه من أخذ أموال الناس بالباطل، وقال أبو هيريرة : هو نهي عن ا لسّلب وقطع الطريق وكان ذلك من فعلهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل فقال هذا مثل لقوم من أمّتك يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ﴾ وفي هذا القول والقول الذي قبله مناسبة لقوله ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ﴾ لكن لا تظهر مناسبة لهما بقوله ﴿وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ﴾ بل ذلك يناسب القول الأول قال القرطبي : قال علماؤنا ومثلهم اليوم هؤلاء المكاسون الذين يأخذون من الناس ما لا يلزمهم شرعاً من الوظائف الماليّة بالقهر والجبر وضمنوا ما لا يجوز ضمان أصله من الزكاة والمواريث والملاهي والمترتّبون في الطرق إلى غير ذلك مما قد كثر في الوجود وعمل به في سائر البلاد وهو من أعظم الذنوب وأكبرها وأفحشها فإنه غضب وظلم وعسف على الناس وإذاعة للمنكر وعمل به ودوام عليه وإقرار له وأعظمه تضمين الشرع والحكم للقضاء فإنا لله وإنا إليه راجعون، لم يبق من الإسلام إلا رسمه ولا من الدّين إلا اسمه انتهى كلامه. وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأموال والأعراض بالدماء في قوله في حجة الوداع :"ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حراماً" وما أكثر ما تساهل الناس في أخذ الأموال وفي الغيبة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :"من قتل دون ماله فهو شهيد" والعجب إطباق من يتظاهر بالصلاح والدين والعلم على عدم إنكار هذه المكوس والضمانات وادعاء بعضهم أنه له تصرف في الوجود ودلال على الله تعالى بحيث إنه يدعو فيستجاب له فيما أراد ويضمن لمن كان من أصحابه وأتباعه الجنة وهو مع ذلك يتردّد لأصحاب المكوس ويتذلل إليهم في نزع شيء حقير وأخذه من المكس الذي حصّلوه وهذه وقاحة لا تصدر ممن شمّ رائحة الإيمان ولا تعلق بشيء من الإسلام، وقال بعض الشعراء :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٣٧
تساوى الكلّ منا في المساويفأفضلنا فتيلاً ما يساوي
وعلى الأقوال السابقة يكون القعود بكل صراط حقيقة وحمل القعود والصراط الزمخشري
٣٣٨
على المجاز، فقال ولا تقتدوا بالشيطان في قوله ﴿لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدّين والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله ﴿وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فإن قلت : صراط الحقّ واحد ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِا﴾ فكيف قيل بكل صراط، قلت : صراط الحقّ واحد ولكنه يتشعّب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحداً يشرع في شيء منه منعوه وصدّوه انتهى. ولا تظهر الدلالة على أن المراد بالصراط سبيل الحق من قوله ﴿وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله فيكون ﴿بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ حقيقة في الطرق، و﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مجاز عن دين الله والباء في ﴿بِكُلِّ صِرَاطٍ﴾ ظرفية نحو زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة والجمل من قوله ﴿تُوعَدُونَ﴾ ﴿وَتَصُدُّونَ﴾ ﴿وَتَبْغُونَهَا﴾ أحوال أي موعدين وصادّين وباغين والإيعاد ذكر إنزال المضار بالموعد ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس فيه كل مذهب من الشرّ لأن أوعد لا يكون إلا في الشر وإذا ذكر تعدى الفعل إليه بالباء.


الصفحة التالية
Icon