﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَآ أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ لما ذكر تعالى ما حلّ بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم حين لا تجدي فيهم الموعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في أتباع الأنبياء إذا أصرّوا على تكذيبهم وجاء بعد إلا فعل ماض وهو ﴿أَخَذْنَآ﴾ ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أصحب بقد فمثال ما تقدّمه فعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد قولك ما زيد إلا قد قام والجملة من قوله ﴿أَخَذْنَآ﴾ حاليّة أي إلا آخذين أهلها وهو استثناء مفرّغ من الأحوال وتقدّم تفسير نظير قوله ﴿إِلا أَخَذْنَآ﴾ إلى آخره. ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾ أي مكان الحال السيئة من البأساء والضراء الحال الحسنة من السّرّاء والنعمة، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة مكان الشدّة الرخاء، وقيل مكان الشرّ الخير ومكان و﴿الْحَسَنَةَ﴾ مفعولاً بدل و﴿مَّكَانَ﴾ هو محل الباء أي بمكان السيئة وفي لفظ ﴿مَّكَانَ﴾ إشعار بتمكن البأساء منهم كأنه صار للشدة عندهم مكان وأعرب بعضهم ﴿مَّكَانَ﴾ ظرفاً أي في مكان ﴿حَتَّى عَفَوا ﴾ أي كثروا وتناسلوا، وقال مجاهد : كثرت أموالهم وأولادهم، وقال ابن بحر حتى أعرضوا من عفا عن ذنبه أي أعرض عنه، وقال الحسن : سمنوا، وقال قتادة سرّوا بكثرتهم وذلك استدراج منه لهم لأنه أخذهم بالشدة ليتعظوا ويزدجروتا فلم يفعلوا ثم أخذهم بالرخاء ليشكروا. ﴿وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ﴾ أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا هذه عادة الدّهر ضرّاء وسرّاء وقد أصاب آباءنا مثل ذلك لا بابتلاء وقصد بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبر الأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلاً لهم ولما يصيبهم فلا ينبغي أن ننكر هذه العادة من أفعال الدهر. ﴿فَأَخَذْنَـاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ تقدّم الكلام على مثل هذه الآية لما أفسدوا على التقديرين أخذوا هذا
٣٤٧
الأخذ.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤١
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَـاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أي لو كانوا ممن سبق في علم الله أنهم يتلبسون بالإيمان بما جاءت به الأنبياء وبالطاعات التي هي ثمرة الإيمان ليتيسر لهم من بركات السماء ولكن كانوا ممن سبق في علمه أنهم يكذّبون الأنبياء فيؤخذون باجترامهم وكل من الإيمان والتكذيب والثواب والعقاب سبق به القدر وأضيف الإيمان والتكذيب إلى العبد كسباً والموجد لهما هو الله تعالى لا يسأل عما يفعل، وقال الزمخشري : اللام في القرى إشارة إلى ﴿الْقُرَى ﴾ التي دلّ عليها قوله تعالى ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ﴾ كأنه قال ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا آمنوا بدل كفرهم واتقوا المعاصي مكان ارتكابها ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ﴾ لآتيناهم بالخير من كل وجه، وقيل : أراد المطر والنبات ﴿وَلَـاكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَـاهُم﴾ بسوء كسبهم ويجوز أن تكون اللام في ﴿الْقُرَى ﴾ للجنس انتهى، وفي قوله واتقوا المعاصي نزغة الاعتزال رتب تعالى على الإيمان والتقوى فتح البركات ورتب على التكذيب وحده وهو المقابل للإيمان الهلاك ولم يذكر مقابل التقوى لأنّ التكذيب لم ينفع معه الخير بخلاف الإيمان فإنه ينفع وإن لم يكن معه فعل الطاعات والظاهر أن قوله ﴿بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ﴾ لا يرتاد بها معين ولذلك جاءت نكرة، وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض الثمار، وقال السدّي : المعنى لفتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق، وقيل بركات السماء إجابة الدعاء، وبركات الأرض تيسيرالحاجات، وقيل : بركات السماء المطر وبركات الأرض المواشي والأنعام وحصول السلامة والأمن، وقيل : البركات النمو والزيادات فمن السماء بجهة المطر والريح والشمس ومن الأرض بجهة النبات والحفظ لما نبت هذا الذي تدركه فطر البشر ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم وما علم الله أكثر وذلك أنّ السماء تجري مجرى الأب والأرض مجرى الأم ومنهما تحصل جميع الخيرات يخلق الله وتدبيره والأخذ أخذ إهلاك بالذنوب، وقرأ ابن عامر : وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن ﴿لَفَتَحْنَا﴾ بتشديد التاء ومعنى الفتح هنا التيسير عليهم كما تيسر على الأبواب المستغلقة بفتحها ومنه فتحت على القارىء إذا يسرت عليه بتلقينك إياه ما تعذّر عليه حفظه من القرآن إذا أراد القراءة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤١
﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ الهمزة دخلت على أمن للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإنكار
٣٤٨


الصفحة التالية
Icon