اضطراباً متناقضاً يعجب العاقل من تسطيره في الكتب فمن قائل تسعمائة ألف ساحر وقائل سبعين ساحراً فما بينهما من الأعداد المعينة المتناقضة ﴿وَجَآءَ﴾ قالوا : بغير حرف عطف لأنه على تقدير جواب سائل سأل ما قالوه إذ جاء قالوا ﴿إِنَّ لَنَا لاجْرًا﴾ أي جعلاً، وقال الحوفي ﴿وَقَالُوا ﴾ في موضع الحال من السحرة والعامل ﴿جَآءَ﴾، وقرأ الحرميان وحفص ﴿ءَانٍ﴾ على وجه الخبر واشتراط الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة ولا يريدون مطلق الأجر بل المعنى لأجراً عظيماً ولهذا قال الزمخشري : والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة وجوّز أبو علي أن تكون ﴿ءَانٍ﴾ استفهاماً حذفت منه الهمزة كقراءة الباقين الذين أثبتوها وهم الأخوان وابن عامر وأبو بكر وأبو عمرو فمنهم من حققهما ومنهم من سهل الثانية ومنهم من أدخل بينهما ألفاً والخلاف في كتب القراءات وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه وعلى من لا يعلم مثل علمه و﴿نَحْنُ﴾ إما تأكيد للضمير وإما فصل وجواب الشرط محذوف، وقال الحوفي في جوابه ما تقدم.
﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ أي نعم إن لكم لأجراً ﴿وَإِنَّكُمْ﴾ فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد ﴿نِعْمَ﴾ التي هي نائبة عنها والمعنى لمن المقربين مني أي لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكم أن تكونوا من المقربين فتحوزون إلى الأجر الكرامة والرّفعة والجاه والمنزلة والمثاب إنما يتهنى ويغتبط به إذا حاز إلى ذلك الإكرام، وفي مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه دليل على شدّة اضطراره لهم وإنهم كانوا عالمين بأنه عاجز ولذلك احتاج إلى السحرة في دفع موسى عليه السلام.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤١
﴿قَالُوا يَـامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾. قال الزمخشري تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع انتهى. وقال القرطبي تأدّبوا مع موسى عليه السلام بقولهم ﴿إِمَّآ أَن تُلْقِىَ﴾ فكان ذلك سبب إيمانهم والذي يظهر أنّ تخييرهم إياه ليس من باب الأدب بل ذلك من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم وعدم الاكتراث والابتهال بأمر موسى كما قال الفرّاء لسيبويه حين جمع الرشيد بين سيبويه والكسائي أتسأل فأجيب أم أبتدىء وتجيب فهذا جاء التخيير فيه على سبيل الإدلال بنفسه والملاءة بما عنده وعدم الاكتراث بمناظرته والوثوق بأنه هو الغالب، قال الزمخشري : وقولهم ﴿وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾ فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل انتهى، وأجازوا في ﴿أَن تُلْقِىَ﴾ وفي ﴿أَن نَّكُونَ﴾ النصب أي اختر وافعل إما إلقاءك وإما أمرك الإلقاء أي البداءة به أو إما أمرنا الإلقاء فيكون خبر مبتدأ محذوف ودخلت ﴿ءَانٍ﴾ لأنه لا يكون الفعل وحده مفعولاً ولا مبتدأ بخلاف قوله ﴿وَءَاخَرُونَ﴾ ﴿مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ﴾ فالفعل بعد ﴿أَمَّآ﴾ هنا خبر ثان لقوله ﴿وَءَاخَرُونَ﴾ أو صفة فليس من مواضع أن ومفعول
٣٦١
﴿تُلْقِىَ﴾ محذوف أي إما أن تلقي عصاك وكذلك مفعول ﴿الْمُلْقِينَ﴾ أي الملقين العصى والحبال.
﴿قَالَ أَلْقُوْا ﴾ أعطاهم موسى عليه السلام التقدّم وثوقاً بالحق وعلماً أنه تعالى يبطله كما حكى الله عنه ﴿قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُا إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُا ﴾. قال الزمخشري : وقد سوّغ لهم موسى عليه السلام ما تراغبوا فيه ازدراءً لشأنهم وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبداً انتهى والمعنى ألقوا حبالكم وعصيكم والظاهر أنه أمر بالإلقاء. وقيل هو تهديد أي فسترون ما حل بكم من الافتضاح.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤١
﴿فَلَمَّآ أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ أي أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ﴾.
﴿يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم من إخراجهم من أرضهم وخلوّ مواطنهم منهم وخراب بيوتهم فبادروا
٣٥٨