﴿إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَآ أَهْلَهَا ﴾ أي صنيعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء وتواطأتم على ذلك لغرض لكم وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل قال هذا تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان روي عن ابن مسعود وابن عباس أن موسى عليه السلام اجتمع مع رئيس السحرة شمعون فقال له موسى أرأيت إن غلبتكم أتؤمنون بي فقال له نعم فعلم بذلك فرعون فقال ما قال انتهى، ولما خاف فرعون أن يكون إيمان السحرة حجة قومه ألقى في الحال نوعين من الشبه أحدهما إنّ هذا تواطؤ منهم لا أنّ ما جاء به حق والثاني ﴿إِنَّ ذَالِكَ﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٢
﴿لِتُخْرِجُوا مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ تهديد ووعيد ومفعول ﴿تَعْلَمُونَ﴾ محذوف أي ما يحلّ بكم أبهم في متعلق ﴿تَعْلَمُونَ﴾ ثم عين ما يفعل بهم فقال مقسماً :﴿لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ ثُمَّ لاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لما ظهرت الحجة عاد إلى عادة ملوك السوء إذا غلبوا من تعذيب من ناوأهم وإن كان محقّاً ومعنى ﴿مِّنْ خِلَـافٍ﴾ أي يد يمنى ورجل يسرى والعكس، قيل هو أول من فعل هذا، وقيل المعنى من أجل الخلاف الذي ظهر منكم والصلب التعليق على الخشب وهذا التوعد الذي توعده فرعون السحرة ليس في القرآن نص على أنه أنفذه وأوقعه بهم ولكن روي في القصص أنه قطع بعضاً وصلب بعضاً وتقدم قول قتادة، وروي عن ابن عباس أنهم أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وقرأ
٣٦٥
مجاهد وحميد المكي وابن محيصن ﴿لاقَطِّعَنَّ﴾ مضارع قطع الثلاثي ﴿لاصَلِّبَنَّكُمْ﴾ مضارع صلب الثلاثي بضم لام ﴿لاصَلِّبَنَّكُمْ﴾ وروي بكسرها وجاء هنا ﴿ثُمَّ﴾ وفي السورتين ﴿وَلاصَلِّبَنَّكُمْ﴾ بالواو فدل على أن الواو أريد بها معنى ثم من كون الصلب بعد القطع والتعدية قد يكون معها مهلة وقد لا يكون.
﴿قَالُوا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾ هذا تسليم واتّكال على الله تعالى وثقه بما عنده والمعنى أنا نرجع إلى ثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد أو أنا ننقلب إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك أو أنا ميتون منقلبون إلى الله فلا نبالي بالموت إذ لا تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بدّ لنا منه فالانقلاب الأول يكون المراد به يوم الجزاء وهذان الانقلابان المراد بهما في الدنيا ويبعد أن يراد بقوله ﴿وَأَنَا﴾ ضمير أنفسهم وفرعون أي ننقلب إلى الله جميعاً فيحكم بيننا لقوله ﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ﴾ فإنّ هذا الضمير يخصُّ مؤمني السحرة والأولى اتحاد الضمائر والذي أجاز هذا الوجه هو الزمخشري : وفي قولهم ﴿إِلَى رَبِّنَا﴾ تبرؤ من فرعون ومن ربوبيته وفي الشعراء لا ضير لأن هذه السورة اختصرت فيها القصة واتسعت في الشعراء ذكر فيها أحوال فرعون من أوّلها إلى آخرها فبدأ بقوله ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا﴾ وختم بقوله ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخَرِينَ﴾ فوقع فيها زوائد لم تقع في هذه السورة ولا في طه قاله الكرماني.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٦٢
﴿وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلا أَنْ ءَامَنَّا بآيات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا ﴾ قال الضحاك : وما تطعن علينا، وقال غيره : وما تكره منا، وقال الزمخشري : وما تعيب منا، وقال ابن عطية : وما تعد علينا ذنباً وتؤاخذنا به وعلى هذه التأويلات يكون قوله ﴿قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ﴾ في موضع المفعول ويكون من الاستثناء المفرّغ من المفعول وجاء هذا التركيب في القرآن كقوله ﴿قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ﴾ ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا ﴾ وهذا الفعل في لسان العرب يتعدّى بعلى تقول نقمت على الرجل أنقم إذا غلب عليه والذي يظهر من تعديته بمن أنّ المعنى وما تنقم منا أي ما تنال منا كقوله فينتقم الله منه أي يناله بمكروه ويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد كقدر واقتدر وعلى هذا يكون قوله ﴿قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ﴾ مفعولاً من أجله واستثناء مفرّغاً أي ما تنال منا وتعذّبنا لشيء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا وعلى هذا المعنى يدل تفسير عطاء، قال عطاء : أي ما لنا عندك ذنب تعذّبنا عليه إلا أنّا آمنا، والآيات المعجزات التي أتى بها موسى عليه السلام ومن جعل لما ظرفاً جعل العامل فيها ﴿مِنَّآ إِلا﴾ ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً لدلالة ما قبله عليه أي لما جاءتنا آمنا وفي كلامهم هذا تكذيب لفرعون في ادعائه الرّبوبية وانسلاخ منهم عن اعتقادهم ذلك فيه والإيمان بالله هو أصل المفاخر والمناقب وهذا الاستثناء شبيه بقوله :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهمبهنّ فلول من قراع الكتائب


الصفحة التالية
Icon