واستدلّ القاضي بهذه الجملة الشرطية على وعيد الفسّاق من أهل الصلاة لأنها دلّت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ومأواه جهنم. قال : وليس للمرجئة أن يحملوا ذلك على الكفار كما فعلوا في آيات الوعيد لأن ذلك مفتتح بأهل الصلاة وهو قوله يا أيها الذين آمنوا انتهى، ولا حجة في ذلك لأنه عامّ مخصوص والظاهر أنه يجوز التحيّز سواء عظم العسكر أم لا، وقيل لا يجوز إذا عظم والظاهر أنّ الفرار من الزحف بغير شروطه كبيرة للتوعد ولذلك قال ابن القاسم لا تقبلوا شهادة مَن فرّ مِن الزّحف وإن فر أمامهم ومَنن فرّ فليستغفر الله ففي الترمذي : من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيُّوم غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٣
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُم وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ﴾ لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل قتلت وأسرت فنزلت. قال الزمخشري : والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوى قلوبكم وأذهب عنها الفزع والجزع انتهى، وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان كان امتثال ما أمروا به سبباً للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأنّ الأقدار عليه والخالق له إنما هو الله ليس للقاتل فيها شيء لكنه أجرى على يده
٤٧٦
فنفى عنهم إيجاد القتل وأثبت لله وفي ذلك ردّ على من زعم أن أفعال العباد خلق لهم، ومجيء لكن هنا أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات فالمثبت لله هو المنفيّ عنهم وهو حقيقة القتل ومن زعم أنّ أفعال العباد مخلوقة لهم أوّل الكلام على معنى فلم يتسببوا لقتلكم إياهم ولكنّ الله قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة إلى آخر كلامه، وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفيّة يلم لأنّ لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع لأنّ لنفي الماضي طريقين إحداهما أن تدخل ما على لفظه والأخرى أن تنفيهَ بلم فتأتي بالمضاع والأصل هو الأول لأن النفي ينبغي أن يكون على حسب الإيجاب وفي الجملة مبالغة من وجهين أحدهما أن النفي جاء على حسب الإيجاب لفظاً ؛ الثاني إن نفي ما صرح بإثباته وهو قوله وما رميْت إذ رميت ولم يصرّح في قوله فلم تقتلوهم بقوله إذ قتلتموهم وإنما بولغ في هذا لأن الرمي كان أمراً خارقاً للعادة مُعجزاً آية من آياتِ الله على أي وجه فسر الرمي لأنهم اختلفوا فيه، فقال ابن عباس قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر قبضة من تراب فقال شاهت الوجوه أي قبحت فلم يبقَ مشرك إلا دخل في عينيه وفيه ومنخريه منها شيء، وقال حكيم بن حرام فسمعنا صوتاً من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلك الرّمية فانهزموا، وقال أنس : رمى ثلاث حصيات يوم بدر واحدة في ميمنة القوم واحدة في ميسرتهم وثالثة بين أظهرهم، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا، وقيل الرمي هنا رمي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد، قال ابن عطية : وهذا ضعيف لأنّ الآية نزلت عقب بدر وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وبعدها وذلك بعيد، وقيل المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حصن خيبر فسار في الهوى حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهذا فاسدو والصحيح في صورة قتل ابن أبي الحقيق غير هذا وقوله وما رميت نفي وإذ رميت إثبات فاحتيج إلى تأويل وهو أن يغاير بين الرميين فالمنفيّ الإصابة والظفر والمثبت الإرسال، وقيل المنفيّ إزهاق الروح والمثبت أثر الرّمي وهو الجرح وهذان القولان متقاربان، وقيل ما استبددت بالرمي إذ أرسلت التراب لأنّ الاستبداد به هو فعل الله حقيقة وإرسال التراب منسوب إليه كسباً كان المعنى، وما رميت الرمي الكافي إذ رميت ونحوه قول العباس بن مرداس :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٣
وقد كنت في الحرب ذا تدرإفلم أعط شيئاً ولم أمنع


الصفحة التالية
Icon