﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِا وَأَنَّهُا إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ المعنى : أنه تعالى هو المتصرّف في جميع الأشياء والقادر على الحيلولة بين الإنسان وبين ما يشتهيه قلبه فهو الذي ينبغي أن يستجاب له إذا دعاه إذ بيده تعالى ملكوت كل شيء وزمامه وفي ذلك حضّ على المراقبة والخوف من الله تعالى والبدار إلى الاستجابة له، وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك : يحول بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان، وقال مجاهد : يحول بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل عقوبة على عناده ففي التنزيل إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أي عقل، وقال السدي : يحول بين كل واحد وقلبه فلا يقدر على إيمان ولا كفر إلا بإذنه، وقال ابن الأنباري : بينه وبين ما يتمناه، وقال ابن قتيبة : بينه وبين هواه وهذان راجعان إلى القول الأول، وقال علي بن عيسى : هو أن يتوفاه ولأنّ الأجل يحول بينه وبين أمل قلبه وهذا حثّ على انتهاز الفرصة قبل الوفاة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومخالجة أدوائه وعلله وردّه سليماً كما يريده الله فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله
٤٨١
ورسوله انتهى، وهو على طريقة المعتزلة وعلي بن عيسى هو الرماني وهو معتزلي، وقال الزمخشري أيضاً. وقيل معناه : أنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه ويغير نيّاته ومقاصده ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وبالنسيان ذكراً وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى، فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر وبينه وبين الكفر إذا آمن تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً انتهى، وجعل هذا المسكين صدر هذه الأمة ظالمين إذ قائل ذلك هو ابن عباس ترجمان القرآن ومن ذكر معه من سادات التابعين، وقيل : يبدل الجبن جراءة وهو تحريض على القتال بعد الأمر به بقوله استجيبوا ويكشف حقيقته قوله صلى الله عليه وسلّم :"قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف يشاء وتأويله بين أثرين من آثار ربوبيته". وقيل : يحول بين المؤمن وبين المعاصي التي يهمّ بها قلبه بالعصمة، وقيل : معناه أنه يطلع على كل ما يخطر المرء بباله لا يخفى عليه شيء من ضمائره فكأنه بينه وبين قلبه واختار الطبري أن يكون المعنى أنّ الله أخبر أنه أملك لقلوب العباد منهم وأنه يحول بينهم وبينهما إذا شاء حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته تعالى، وقرأ ابن أبي إسحاق : بين المرء بكسر الميم اتباعاً لحركة الإعراب إذ في المرء لغتان : فتح الميم مطلقاً واتباعها حركة الإعراب، وقرأ الحسن والزهري : بين المرّ بتشديد الراء من غير همز ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء وحذف الهمزة ثم شدّدها كما تشدّد في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف وكثيراً ما تفعل العرب ذلك تُجري الوصل مجرى الوقف، وهذا توجيه شذوذ وأنه إليه تحشرون الظاهر أن الضمير في أنه عائد إلى الله ويحتمل أن يكون ضمير الشأن ولما أمرهم بأن يعلموا قدرة الله وحيلولته بين المرء ومقاصد قلبه أعلمهم بأنه تعالى إليه يحشرهم فيثيبهم على أعمالهم فكان في ذلك تذكار لما يؤول إليه أمرهم من البعث والجزاء بالثواب والعقاب.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٧٣
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ هذا الخطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة التي لا تختصّ بالظالم بل تعمّ الصالح والطالح وكذلك روي عن ابن عباس قال : أمر المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم الله بالعذاب ففي البخاري والترمذي أن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده، وفي مسلم من حديث زينب بنت جحش سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :
٤٨٢
نعم إذا كثر الخبث، وقيل الخطاب للصحابة، وقيل لأهل بدر، وقيل لعلي وعمار وطلحة والزبير، وقيل لرجلين من قريش قاله أبو صالح عن ابن عباس ولم يسمّهما والفتنة هنا القتال في وقعة الجمل أو الضلالة أو عدم إنكار المنكر أو بالأموال والأولاد أو بظهور البدع أو العقوبة أقوال، وقال الزبير بن العوام يوم الجمل : ما علمت أنا أُردنا بهذه الآية إلا اليوم وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها في ذلك الوقت والجملة من قوله لا تصيبن خبريّة صفة لقوله فتنة أي غير مصيبة الظالم خاصة إلا أن دخول نون التوكيد على المنفى بلا مختلف فيه، فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو الندور والذي نختاره الجواز وإليه ذهب بعض النحويين وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل مبنياً بلا مع الفصل نحو قوله :
فلاذا نعيم يتركن لنعيمهوإن قال قرظني وخذ رشوة أبي ولا ذا بئيسن يتركن لبؤسه فينفعه شكوى إليه إن اشتكى
٤٨٣


الصفحة التالية
Icon