إنّ قوله : وإنّي جار لكم ليس مما يلقى بالوسوسة انتهى، ويمكن أن يكون صدور هذا القول على لسان بعض الغواة من الناس قال لهم ذلك بإغواء إبليس له ونسب ذلك إلى إبليس لأنه هو المتسبب في ذلك القول فيكون القول والنكوص صادرين من إنسان حقيقة والجمهور على أنّ إبليس تصور لهم فعن ابن عباس في صورة رجل من بني مدلج في جند من الشياطين معه راية، وقيل جاءهم في طريقهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وقد خافوا من بني بكر وكنانة لدخول كانت بينهم وكان من أشراف كنانة فقال : ما حكى الله عنه ومعنى جار لكم مجيركم من بني كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص، وقيل كانت يده في يد الحارث بن هشام فلما نكص قال له الحرث : إلى أن أتخذ لنا في هذه الحال فقال إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة بن مالك فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان وفي الموطأ وغيره ما رؤي الشيطان في يوم قل ولا أحقر ولا أصفر في يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر قيل : وما رأى يا رسول الله قال : رأى الملائكة يريحها جبريل، وقال الحسن : رأى إبليس جبريل يقود فرسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلّم وهو معتجر ببردة وفي يده اللجام ولكم ليس متعلقاً بقوله : لا غالب لأنه كان يلزم تنوينه لأنه يكون اسم لا مطولاً والمطول يعرب ولا يبنى بل لكم في موضع رفع على الخبر أي كائن لكم وبما تعلق المجرور تعلّق الظرف واليوم عبارة عن يوم بدر ويحتمل أن يكون قوله وإني جار لكم معطوفاً على لا غالب لكم اليوم ويحتمل أن تكون الواو للحال أي لا أحد يغلبكم وأنا جار لكم أعينكم وأنصركم بنفسي وبقومي والفئتان جمعاً المؤمنين والكافرين، وقيل فئة المؤمنين وفئة الملائكة نكص على عقبيه رجع في ضد إقباله وقال : إني بريء منكم مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم لم يكتفِ بالفعل حتى أكد ذلك بالقول ما لا ترون رأي خرق العادة ونزول الملائكة إني أخاف الله، قال قتادة وابن الكلبي معذرة كاذبة لم يخف الله قط، وقال الزجاج وغيره : بل خاف مما رأى من الهول إنه يكون اليوم الذي أنظر إليه انتهى وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَـانِ إِذْ قَالَ لِلانسَـانِ اكْفُرْ﴾ ويحتمل أنّ يكون والله شديد العقاب معطوفاً على معمول القول قال : ذلك بسطاً لعذره عندهم وهو متحقق أنّ عذاب الله شديد ويحتمل أن يكون من كلام الله استأنف تهديداً لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٩٥
﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاءِ دِينُهُمْ﴾، العامل في إذ زيّن أو نكص أو سميع عليم أو اذكروا أقوال وظاهر العطف التغاير. فقيل المنافقون هم من الأوس والخزرج لما خرج الرسول صلى الله عليه وسلّم قال بعضهم : نخرج معه، وقال بعضهم : لا نخرج غرّ هؤلاء أي المؤمنين دينهم فإنهم يزعمون أنهم على حق وأنهم لا يغلبون هذا معنى قول ابن عباس، والذين في قلوبهم مرض قوم أسلموا ومنهم أقرباؤهم من الهجرة فأخرجتهم قريش معها كرهاً فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وقالوا غرّ هؤلاء دينهم فقتلوا جميعاً، منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحرث بن زمعة بن الأسود وعلي بن أمية والعاصي بن منبه بن الحجاج ولم يذكر أنّ منافقاً شهد بدراً مع المسلمين إلا معتب بن قشير فإنه ظهر منه يوم أحد قوله : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا، وقيل والذين في قلوبهم مرض هو من عطف الصّفات وهي لموصوف واحد وصفوا بالنفاق وهو إظهار ما يخفيه من المرض كما قال تعالى في قلوبهم مرض وهم منافقو المدينة، وعن الحسن هم المشركون ويبعد هذا إذ لا يتّصف المشركون بالنفاق لأنهم مجاهرون
٥٠٥
بالعداوة لا منافقون، وقال ابن عطية، قال المفسّرون : إنّ هؤلاء الموصوفين بالنفاق ومرض القلوب إنما هم من أهل عسكر الكفار لما أشرفوا على المسلمين ورأوا قلّة عددهم قالوا مشيرين إلى المسلمين غرّ هؤلاء دينهم أي اغترّوا فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به وكنّى بالقلوب عن العقائد والمرض أعمّ من النفاق إذ يطلق مرض القلب على الكفر.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٩٥


الصفحة التالية
Icon