دونهم بمنزلة قولك دون أن تكون هؤلاء فدون في كلام العرب ومن دون تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة التي فيها القول ومنه المثل : وأمر دون عبيدة الوزم، قال مجاهد وآخرين : بنو قريظة، وقال مقاتل : اليهود، وقال السدّي : أهل فارس، وقالت فرقة : كفار الجن ورجّحه الطبري واستند في ذلك إلى ما روي من أنّ صهيل الخيل تنفر الجنّ منه وأنّ الشياطين لا تدخل داراً فيها فرس الجهاد ونحو هذا، وقالت فرقة : هم كل عدوّ للمسلمين غير الفرقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلّم أن يشرّد بهم من خلفهم، وقال ابن زيد : هم المنافقون وهذا أظهر لأنه قال لا تعلمونهم الله يعلمهم أي لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهم إذ هم متسترون عن أن تعلموهم بالإسلام فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلّق بالذوات وليس متعلقاً بالنسبة ومن جعله متعلقاً بالنسبة فقدّر مفعولاً ثانياً محذوفاً وقدره محاربين فقد أبعد لأنّ حذف مثل هذا دون تقدّم ذكر ممنوع عند بعض النحويين وعزيز جداً عند بعضهم فلا يحمل القرآن عليه مع إمكان حمل اللفظ على غيره وتمكنه من المعنى وقدّره بعضهم لا تعلمونهم فازغين راهِبين الله يعلّمهم بتلك الحالة والظاهر أن يكون إشارة إلى المنافقين كما قلنا على جهة الطّعن عليهم والتنبيه على سوء حالهم وليستريب بنفسه كلّ من يعلم منها نفاقاً إذا سمع الآية وبفزعهم ورهبتهم غنى كبير في ظهور الإسلام وعلوّه، وقال القرطبي ما معناه لا ينبغي أن يعين قوله وآخرين لأنه تعالى قال لا تعلمونهم الله يعلمهم فكيف يدّعي أحد علماً بهم إلا أن يصحّ حديث فيه عن الرسول صلى الله عليه وسلّم انتهى، ثم حضّ تعالى على النفقة في سبيل الله من جهاد وغيره وكان الصحابة يحمل واحد الجماعة على الخيل والإبل وجهّز عثمان جيش العسرة بألف دينار يوفّ إليكم جزاؤه وثوابه من غير نقص، وقيل هذه التوفية في الدنيا على ما أنفقوا مع ما أعدّ لهم في الآخرة من الثواب.
﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. جنح الرّجل إلى الآخر مال إليه وجنحت الإبل مالت أعناقها في السير. قال ذو الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحهبذكراك والعيس المراسيل جنح
وجنح الليل أقبل وأمال أطنابه إلى الأرض. وقال النابغة يصف طيوراً تتبع الجيش :
جوانح قد أيقنّ أنّ قبيلهإذا ما التقى الجيشان أوّل غالب
ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة ومنه الجناح لميله، وقال النضر بن شميل : جنح الرّجل إلى فلان وجنح له إذا تابعه وخضع له والضمير في جنحوا عائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنضير، وقيل على مشركي قريش والعرب، وقيل على قوم سألوا من الرسول صلى الله عليه وسلّم قبول الجزية منهم وجنح يتعدى بإلى وباللام والسّلم يذكر ويؤنّث. فقيل : التأنيث لغة، وقيل على معنى المسالمة، وقيل حملاً على النقيض وهو الحرب، وقال الشاعر :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٩٥
وأفنيت في الحرب آلاتهاوعددت للسلم أوزارها
وتقدّم الخلاف في قراءة السين وكسرها والسّلم الصّلح لغة، فقال قتادة هي موادعة المشركين ومهادنتهم وهذا راجع إلى رأي الإمام فإن رآه مصلحة فعل وإلا فلا، وقيل نزلت في قوم معتب سألوا الموادعة فأمر الله نبيه الإجابة إليها ثم نسخت بقوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون، وقيل : أداء الجزية، وقال الحسن : السلم الإسلام، وعن ابن عباس نسخت بقوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون، وعن مجاهد بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، قال الزمخشري : والصحيح أنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى
٥١٣
الهدنة أبداً، وقرأ الأشهب العقيلي فاجنح بضمّ النون وهي لغة قيس والجمهور بفتحها وهي لغة تميم، وقال ابن جني : القياس في فعل اللازم ضم عين الكلامة في المضارع وهي أقيس من يفعل بالكسر وأمره تعالى بالتوكل عليه فلا يبالي بهم وإن أبطنوا الخديعة في جنوحهم إلى السلم فإنّ الله كاف من توكّل عليه وهو السميع لأقوالهم العليم بنياتهم.