وقال ابن جرير نحواً من هذا إلا أن ﴿هُوَ﴾ عائد على ما عادت عليه الضمائر قبل وليس ضمير الأمر. وقيل : يتعلق ﴿فِي السَّمَـاوَاتِ﴾ بقوله :﴿تَكْسِبُونَ﴾ هذا خطأ، لأن ﴿مَآ﴾ موصولة بـ﴿تَكْسِبُونَ﴾ وسواء كانت حرفاً مصدرياً أم اسماً بمعنى الذي، فإنه لا يجوز تقديم معمول الصلة على الموصول. وقيل ﴿فِي السَّمَـاوَاتِ﴾ حال من المصدر الذي هو ﴿سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ تقدم على ذي الحال وعلى العامل. وقال الزمخشري : يجوز أن يكون ﴿اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ﴾ خبراً بعد خبر على معنى أنه الله وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما، لا يخفى عليه شيء منه كأن ذاته فيها وهو ضعيف، لأن المجرور بفي لا يدل على وصف خاص إنما يدل على كون مطلق وعلى هذه الأقوال ينبني إعراب هذه الآية، وإنما ذهب أهل العلم إلى هذه التأويلات والخروج عن ظاهر ﴿فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الارْضِ﴾ لما قام عليه دليل العقل من استحالة حلول الله تعالى في الأماكن ومماسة الإجرام ومحاذاته لها وتحيزه في جهة، قال معناه وبعض لفظه ابن عطية وفي قوله :﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ﴾ إلى آخره خبر في ضمنه تحذير وزجر. قال أبو عبد الله الرازي : المراد بالسرّ صفات القلوب وهو الدواعي والصوارف وبالجهر أعمال الجوارح وقدم السرّ لأن ذكر المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي، فالداعية التي هي من باب السرّ هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة العلم بالمعلول والعلة متقدّمة على المعلول والمقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ، انتهى.
وقال التبريزي : معناه يعلم ما تخفونه من أعمالكم ونياتكم وما تظهرون من أعمالكم وما تكسبون، عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع أو دفع ضرّ ولهذا لا يوصف به الله تعالى. وقال أبو عبد الله الرازي : وفي أول كلامه شيء من معنى كلام الزمخشري يجب حمل قوله :﴿مَا تَكْسِبُونَ﴾ على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب، فهو محمول على المكتسب كما يقال هذا المال كسب فلان أي مكتسبه، ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه وفي هذه الآية رد على المعطلة والثنوية والحشوية والفلاسفة ؛ انتهى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
وقال الزمخشري :(فإن قلت) : كيف موقع قوله ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ (قلت) : إن أراد المتوحد بالإلهية كان تقريراً له، لأن الذي استوى في علمه السرّ والعلانية، هو الله وحده وكذلك إذا جعلت ﴿فِي السَّمَـاوَاتِ﴾ خبراً بعد خبر وإلا فهو كلام مبتدأ أو خبر ثالث، انتهى، وهذا على مذهب من يجيز أن يكون للمبتدأ أخباراً متعددة.
﴿وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ ﴿مِنْ﴾ الأولى زائدة لاستغراق الجنس، ومعنى الزيادة فيها أن ما بعدها معمول لما قبلها فاعل بقوله ﴿تَأْتِيَهُمُ﴾ فإذا كانت
٧٣
النكرة بعدها مما لا يستعمل إلا في النفي العام، كانت ﴿مِنْ﴾ لتأكيد الاستغراق نحو ما في الدار من أحد، وإذا كانت مما يجوز أن يراد بها الاستغراق، ويجوز أن يراد بها نفي الوحدة أو نفي الكمال كانت ﴿مِنْ﴾ دالة على الاستغراق نحو ما قام من رجل، و﴿مِنْ﴾ الثانية للتبعيض. قال الزمخشري : يعني وما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار إلا كانوا عنه ﴿مُعْرِضِينَ﴾ تاركين للنظر، لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب ؛ انتهى. واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله : وما يظهر لهم قط دليل ليس بجيد، لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا إن كان أراد بقوله : وما يظهر وما ظهر ولا حاجة إلى استعمال ذلك. وقيل :﴿الايَةَ﴾ هنا العلامة على وحدانية الله وانفراده بالألوهية. وقيل : الرسالة. وقيل : المعجز الخارق. وقيل : القرآن ومعنى ﴿عَنْهَا﴾ أي : عن قبولها أو سماعها، والإعراض ضد الإقبال وهو مجاز إذ حقيقته في الأجسام، والجملة من قوله :﴿كَانُوا ﴾ ومتعلقها في موضع الحال فيكون ﴿تَأْتِيَهُمُ﴾ ماضي المعنى لقوله :﴿كَانُوا ﴾ أو يكون ﴿كَانُوا ﴾ مضارع المعنى لقوله :﴿تَأْتِيَهُمُ﴾ وذو الحال هو الضمير في ﴿تَأْتِيَهُمُ﴾، ولا يأتي ماضياً إلا بأحد شرطين أحدهما : أن يسبقه فعل كما في هذا الآية، والثاني أن تدخل على ذلك الماضي قد نحو ما زيد إلا قد ضرب عمراً، وهذا التفات وخروج من الخطاب إلى الغيبة والضمير عائد على ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾. وتضمنت هذه الآية مذمة هؤلاء ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بأنهم يعرضون عن كل آية ترد عليهم، ولما تقدّم الكلام أولاً في التوحيد وثانياً في المعاد وثالثاً في تقرير هذين المطلوبين، ذكر بعد ذلك ما يتعلق بتقرير النبوة وبين فيه أنهم أعرضوا عن تأمل الدلائل، ويدل ذلك على أن التقليد باطل وأن التأمل في الدلائل واجب ولذلك ذموا بإعراضهم عن الدلائل.


الصفحة التالية
Icon