قال الزمخشري (فإن قلت) : كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته. (قلت) : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً، ألا تراهم يقولون ﴿رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـالِمُونَ﴾ وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وقالوا : يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضي عليهم، وأما قول من يقول معنا ﴿رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ عند أنفسنا أو ما علمنا إنا على خطأ في معتقدنا، وحمل قوله :﴿انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ يعني في الدنيا فتحمل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإفحام، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا بمنطبقٍ عليه، وهو ناب عنه أشدّ النبوّ وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله :﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَه كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُم وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَـاذِبُونَ﴾ بعد قوله :﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا ؛ انتهى. وقول الزمخشري. وأما قول من يقول فهو إشارة إلى أبي عليّ الجبائي والقاضي عبد الجبار ومن وافقهما أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واستدلوا بأشياء تؤول إلى مسألة القبح والحسن، وبناء ما قالوه عليها ذكرها أبو عبد الله الرازي في تفسير فتطالع هناك، إذ مسألة التقبيح والتحسين خالفوا فيها أهل السنة وجمهور المفسّرين، يقولون : إن الكفار يكذبون في الآخرة وظواهر القرآن دالة على ذلك وقد خالف الزمخشري هنا أصحابه المعتزلة ووافق أهل السنة.
﴿وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ يحتمل أن تكون ﴿مَآ﴾ مصدرية وإليه ذهب ابن عطية قال : معناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكفرهم بادعائهم لله الشركاء. وقيل : من اليمين الفاجرة في الدار الآخرة وقيل عزب عنهم افتراؤهم للحيرة التي لحقتهم، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي وإليه ذهب الزمخشري. قال : وغاب ﴿عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ألوهيته وشفاعته وهو معنى قول الحسن وأبي عليّ قالا : لم يغن عنهم شيئاً ما كانوا يعبدون من الأصنام في الدنيا. وقيل : هو قولهم ما كنا ﴿نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ فذهب عنهم حيث علموا أن لا تقريب منهم، ويحتمل أن يكون ﴿وَضَلَّ﴾ عطف على كذبوا فيدخل في خبر ﴿أَنظُرْ﴾ ويحتمل أن يكون إخباراً مستأنفاً فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٤
﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾.
٩٦
روى أبو صالح عن ابن عباس أن أبا سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأمية وأبياً استمعوا للرسول صلى الله عليه وسلّم فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد فقال : ما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان صاحب أشعار جمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدث قريشاً فيستمعون له فقال أبو سفيان : إني لأرى بعض ما يقول حقاً. فقال أبو جهل : كلا لا تقر بشيء من هذا وقال الموت أهون من هذا، فنزلت والضمير في ﴿وَمِنْهُمُ﴾ عائد على الذين أشركوا، ووحد الضمير في ﴿يَسْتَمِعِ﴾ حملاً على لفظ ﴿مِنْ﴾ وجمعه في ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ حملاً على معناها والجملة من قوله :﴿وَجَعَلْنَا﴾ معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على اسمية فيكون إخباراً من الله تعالى أنه جعل كذا. وقيل : الواو واو الحال أي وقد جعلنا أي ننصت إلى سماعك وهم من الغباوة، في حد من قلبه في كنان وأذنه صماء وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى، فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني ويجوز أن تكون بمعنى خلق، فيكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت، فلما تقدّمت صارت حالاً والأكنة جمع كنان كعنان وأعنة والكنان الغطاء الجامع.
قال الشاعر :
إذا ما انتضوها في الوغى من أكنةحسبت بروق الغيث هاجت غيومها
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٤


الصفحة التالية
Icon