في موطن واحد وهي الدنيا، والقول الثاني الذي ذكره الزمخشري هو قول الجمهور وهو أن يكون قوله ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ﴾ كلاماً منقطعاً عما قبله، وقالوا : إخبار عن ما صدر منهم في حالة الدنيا. قال مقاتل : لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم كفار مكة بالبعث قالوا : هذا ومعنى الآية إنكار الحشر والمعاد وبين في هذه الآية أن الذي كانوا يخفونه هو الحشر، والمعاد على بعض أقوال المفسرين المتقدمة وإن هنا نافية ولم يكتفوا بالإخبار عن المحصور فيقولوا هي حياتنا الدنيا حتى أتوا بالنفي والحصر، أي لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا فقط وهي ضمير الحياة وفسره الخبر بعده والتقدير وما الحياة إلا حياتنا الدنيا، هكذا قال بعض أصحابنا إنه يتقدم الضمير ولا ينوي به التأخير إذا جعل الظاهر خبراً للمبتدأ المضمر وعده مع الضمير المجرور برب نحو ربه رجلاً أكرمت والمرفوع بنعم على مذهب البصريين نحو نعم رجلاً زيد أو بأول المتنازعين على مذهب سيبويه نحو ضرباني وضربت الزيدين، أو أبدل منه المفسر على مذهب الأخفش نحو مررت به زيد قال : أو جعل خبره ومثله بقوله :﴿إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ التقديران الحياة إلا حياتنا الدنيا، فإظهار الخبر يدل عليها ويبينها ولم يذكر غيره من أصحابنا هذا القسم أو كان ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين نحو هذا زيد قائم خلافا لابن الطراوة في إنكار هذا القسم وتوضيح هذه المضمرات مذكور في كتب النحو والدنيا صفة لقوله :﴿حَيَاتُنَا﴾ ولم يؤت بها على أنها صفة تزيل اشتراكاً عارضاً في معرفة لأنهم لا يقرون بأن ثم حياة غير دنيا، بل ذلك وصف على سبيل التوكيد إذ لا حياة عندهم إلا هذه الحياة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٤
﴿وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ لما دل الكلام على نفي البعث بما تضمنه من الحصر صرحوا بالنفي المحض الدال على عدم البعث بالمنطوق، وأكدوا ذلك بالباء الداخلة في الخبر على سبيل المبالغة في الإنكار وهذا يدل على أن هذه الآية في مشركي العرب ومن وافقهم في إنكار البعث.
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِم قَالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّا قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا ﴾ جواب ﴿لَوْ﴾ محذوف كما حذف في قوله ﴿وَلَوْ تَرَى ﴾ أولاً وذلك مجاز عن الحبس والتوبيخ والسؤال كما توقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه وقد تعلق بعض المشبهة بهذه الآية، وقال : ظاهرها يدل على أن الله في حيز ومكان لأن أهل القيامة يقفون عنده وبالقرب منه، وذلك يدل على كونه بحيث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه أخرى. قال أبو عبد الله الرازي : وهذا خطأ لأن ظاهر الآية يدل على كونهم واقفين على الله كما يقف أحدنا على الأرض، وذلك يدل على كونه مستعلياً على ذات الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً وأنه باطل بالاتفاق فوجب المصير إلى التأويل، فيكون المراد إذا وقفوا على ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين وعلى ما أخبر به من أمر الآخرة، أو يكون المراد وقوف المعرفة ؛ انتهى. وهذان التأويلان ذكرهما الزمخشري. وقال ابن عطية : على حكمه وأمره ؛ انتهى. وقيل : على مسألة ربهم إياهم عن أعمالهم. وقيل : المسألة
١٠٥
ملائكة ربهم. وقيل : على حساب ربهم قال :﴿أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ﴾ الظاهر أن الفاعل بقال هو الله فيكون السؤال منه تعالى لهم. وقيل : السؤال من الملائكة، فكأنه عائد على من وقفهم على الله من الملائكة أي قال : من وقفهم من الملائكة. وقال الزمخشري قال : مردود على من قال قائل قال ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه ؟ فقيل :﴿أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ﴾ وهذا تغيير من الله لهم على التكذيب وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء ما هو بحق وما هو إلا باطل ؛ انتهى. ويحتمل عندي أن تكون الجملة حالية التقدير ﴿إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ قائلاً لهم ﴿أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ﴾ والإشارة بهذا إلى البعث ومتعلقاته. وقال أبو الفرج بن الجوزي : أليس هذا العذاب بالحق وكأنه لاحظ قوله قال :﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ قالوا :﴿بَلَى وَرَبِّنَا ﴾ تقدم الكلام على وأكدوا جوابهم باليمين في قولهم ﴿بِالْحَقِّا وَرَبُّنَا﴾ وهو إقرار بالإيمان حيث لا ينفع وناسب التوكيد بقولهم ﴿وَرَبُّنَا﴾ صدر الآية في ﴿وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾ وفي ذكر الرب تذكار لهم في أنه كان يربيهم ويصلح حالهم، إذا كان سيدهم وهم عبيده، لكنهم عصوه وخالفوا أمره.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٤
﴿قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي بكفركم بالعذاب والباء سببية فقيل متعلق الكفر البعث أي بكفركم بالبعث. وقيل : متعلقه العذاب أي بكفركم بالعذاب والذوق في العذاب استعارة بليغة والمعنى باشروه مباشرة الذاق إذ هي أشد المباشرات.


الصفحة التالية
Icon