﴿وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية وإن صارفاً من الحكمة صرفه عن إنزالها.
وقال ابن عطية لا يعلمون أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، ويحتمل لا يعلمون أن الله تعالى إنما جعل المصلحة في آيات معرضة للنظر والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون انتهى. والذي يظهر لا يعلمون نفى عنهم العلم حيث فرقوا بين تعلق القدرة بالآيات التي نزلت وبين تعلقها بالآيات المقترحة وتعلق القدرة بهما سواء لاجتماع المقترح وغير المقترح في الإمكان، فمن فرق بين المتماثلات ولم يقنع بما ورد منها فهو لا شك جاهل.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٦
﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الارْضِ وَلا طَئاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَـالُكُمْ﴾ قال ابن الأنباري
١١٨
وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله ركب في المشركين عقولاً وجعل لهم أفهاماً ألزمهم بها أن يتدبروا أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم، كما جعل للدّواب والطير أفهاماً يعرف بها بعضها إشارة بعض، وهدى الذَّكر منها لإتيان الأنثى، وفي ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها.
وقال ابن عطية : المعنى في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته.
وقال الزمخشري : فإن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك ؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو لما لها وما عليها مهيمنٌ على أحوالها لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان انتهى.
والذي يظهر أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء قولهم ﴿لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِا﴾ ولم يعتبروا ما نزل من الآيات وأجيبوا بأن القدرة صالحة لإنزال آية وهي التي اقترحتموها ونبهوا على جهلهم حيث فرقوا بين آية وآية أخبروا أنهم أنفسهم وجميع الحيوان غيرهم متماثلون في تعلق القدرة الإلهية بالجميع، فلا فرق بين خلق من كُلِّف وما لم يكلَّف في تعلق القدرة بهما وإبرازهما من صرف العدم إلى صرف الوجود، فكأنه قيل القدرة تعلقت بالآيات كلها مقترحها وغير مقترحها كما تعلقت بخلقكم وخلق سائر الحيوان، فالإمكان هو الجامع بين كل ذلك ؛ ولذلك قال تعالى :﴿إِلا أُمَمٌ أَمْثَـالُكُمْ﴾ يعني في تعلق القدرة بإيجادها كتعلقها بإيجادكم. وكذلك الآيات. وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات الواردة على أيدي الأنبياء عليهم السلام قد تكون باختراع أعيان، كالماء الذي نبع من بين الأصابع والطعام الذي تكثر من قليل، كما أن المخلوقات هي أعيان مخترعة لله تعالى، وكأن النسبة بمماثلة الحيوان للإنسان دون ذكر الجماد ودون ذكر ما يعمها من حيث قوة المماثلة في الشعور بالأشياء والاهتداء إلى كثير من المصالح بخلاف الجماد، وإن كانت القدرة متعلقة بجميع المخلوقات ودابة تقدّم شرحها، وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بمن التي تفيد استغراق الجنس، فهي عامّة تشمل كل ما يدبّ فيندرج فيها الطائر، فذِكْرُ الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم وذكْرُ بعضٍ من كلَ وصار من باب التجريد كقوله :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٦
﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ﴾ بعد ذكر الملائكة. وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ في القدرة وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض، إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها، والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية، ولذلك قال تعالى :﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ﴾ في جو السماء ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ﴾ وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ من دابة وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاماً وهو الأرض، ويشمل الأرض البر والبحر، ويطير بجناحيه تأكيد لقوله ﴿وَلا طَئاِرٍ﴾ لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله ﴿وَلا طَئاِرٍ﴾ لو اقتصر عليه، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله :﴿وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَئاِرَه فِى عُنُقِهِا﴾ وقولهم :"طار لفلان كذا في القسمة" أي سهمه، و"طائر السعد والنحس" وفيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب. وجاء الوصف بلفظ "يطير" لأنه مشعر بالديمومة والغلبة، لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير، وقلَّ ما يسكن، حتى إن المحبوس منها يكثر وُلُوعه بالطيران في المكان الذي حبس فيه من قفص وغيره.
وقرأ ابن أبي عبلة "ولا طائر" بالرفع، عطفاً على موضع "دابة. وجوزوا أن يكون "في الأرض" في موضع رفع صفة على موضع دابة، وكذلك يقتضي أن يكون "يطير" ويتعين ذلك في قراءة ابن أبي عبلة، والباء في "بجناحيه" للاستعانة كقوله :"كتبت بالقلم" و"إلا أمم" هو خبر المبتدأ
١٩٩