﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ الظاهر في الضمير أنه عائد على ما تقدم وهو الأمم كلها من الطير والدواب. وقال قوم : هو عائد على الكفار لا على أمم وما تخلل بينهما كلام معترض وإقامة وحجج ويرجح هذا القول كونه جاء بهم وبالواو التي هي للعقلاء، ولو كان عائداً على أمم الطير والدواب لكان التركيب ثم إلى ربها تحشر ويجاب عن هذا بأنها لما كانت ممتثلة ما أراد الله منها، أجريت مجرى العقلاء وأصل الحشر الجمع ومنه فحشر فنادى والظاهر أنه يراد به البعث يوم القيامة وهو قول الجمهور، فتحشر البهائم والدواب والطير وفي ذلك حدّيث يرويه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله عز وجل يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني تراباً فذلك قوله تعالى :﴿وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَـالَيْتَنِى كُنتُ تُرَابَا ﴾. وقال ابن عباس والحسن في آخرين : حشر الدواب موتها لأن الدواب لا تكليف عليها ولا ترجو ثواباً ولا تخاف عقاباً ولا تفهم خطاباً ؛ انتهى. ومن ذهب هذا المذهب تأول حديث أبي هريرة على معنى التمثيل في الحساب والقصاص حتى يفهم كل مكلف أنه لا بد له منه ولا محيص وأنه العدل المحض. قال ابن عطية : والقول في الأحاديث المتضمنة أن الله يقتص للجماء من القرناء، أنها كناية عن العدل وليست بحقيقة قول مرذول ينحو إلى القول بالرموز ونحوها ؛ انتهى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٦
وقال ابن فورك : القول بحشرها مع بني آدم أظهر ؛ انتهى. وعلى القول بحشر البهائم مع الناس اختلفوا في المعنى الذي تحشر لأجله، فذهب أهل السنة أنها لإظهار القدرة على الإعادة وفي ذلك تخجيل لمن أنكر ذلك فقال : من يحيي العظام وهي رميم ؟ وقالت المعتزلة : يحشر الله البهائم والطير لإيصال الإعواض إليها وكذلك قال الزمخشري، فيعوضهما وينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء ؛ انتهى. وطول المعتزلة في إيصال التعويض عن آلام البهائم وضررها وأن ذلك واجب على الله تعالى. وفرعوا فروعاً واختلفوا في العوض أهو منقطع أم دائم ؟ فذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه منقطع فبعد توفية العوض يجعلها تراباً، وقال أبو القاسم البلخي : يجب كون العوض دائماً. وقيل : تدخل البهائم الجنة وتعوض عن ما نالها من الآلام وكل ما قالته المعتزلة مبناه على أن الله تعالى يجب عليه إيصال الإعواض إلى البهائم عن الآلام التي حصلت لها في الدّنيا، ومذهب أهل السنة أن الإيجاب على الله تعالى محال.
١٢١
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَـاتِ﴾ قال النقاش : نزلت في بني عبد الدار ثم انسحبت على سواهم ؛ انتهى. ومناسبة هذه لما قبلها أنه لما تقدم قوله :﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَا﴾ أخبر أن المكذبين بالآيات صم لا يسمعون من ينبههم، فلا يستجيب أحد منهم ولما كان قوله :﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ﴾ الآية منبهاً على عظيم قدرة الله تعالى ولطيف صنعه وبديع خلقه، ذكر أن المكذب بآياته هو أصم عن سماع الحق أبكم عن النطق به، والآيات هنا القرآن أو ما ظهر على يدي الرسول من المعجزات أو الدلائل والحجج ثلاثة أقوال والإخبار عنهم بقوله :﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَـاتِ﴾ الظاهر أنه استعارة عن عدم الانتفاع الذهني بهذه الحواس لا أنهم ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَـاتِ﴾ حقيقة وجاء قوله :﴿فِى الظُّلُمَـاتِ﴾ كناية عن عمي البصيرة، فهو ينظر كقوله :﴿صُمُّا بُكْمٌ عُمْىٌ﴾ لكن قوله :﴿فِى الظُّلُمَـاتِ﴾ أبلغ من قوله :﴿عَمًى ﴾ إذ جعلت ظرفاً لهم وجمعت لاختلاف جهات الكفر، كما قيل في قوله :﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ﴾ على أحد الأقوال وفي قوله :﴿يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَـاتِ﴾. وقال الجبائي : الإخبار عنهم بأنهم ﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَـاتِ﴾ حقيقة وذلك يوم القيامة يجعلهم صماً وبكماً في الظلمات يضلهم بذلك عن الجنة ويصيرهم إلى النار، ويعضد هذا التأويل قوله تعالى :﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ الآية. وقال الكعبيّ :﴿صُمٌّ وَبُكْمٌ﴾ محمول على الشتم والإهانة على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة ؛ انتهى. والظلمات ظلمات الكفر أو حجب تضرب على القلب فيظلم وتحول بينه وبين نور الإيمان، أو ظلمات يوم القيامة ومنه قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً أو الشدائد لأن العرب كانت تعبر عن الشدة بالظلمة يقولون يوم مظلمة إذا لقوا فيه شدة ومنه قوله :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٦
بني أسد هل تغلمون بلاءناإذا كان يوم ذو كواكب مظلم


الصفحة التالية
Icon