قال الزمخشري : فإنْ قلت : كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة ؟ (قلت) : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو علم بالشيء موجود، أشبه بنظر الناظر وعيان المعاين في حقيقته انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال، وأنه يلزم من النظر المقابلة، وفيه إنكار وصفه تعالى بالبصير ورده إلى معنى العلم. وقيل : لننظر، هو على حذف مضاف أي : لينظر رسلنا وأولياؤنا. وأسند النظر إلى الله مجازاً، وهو لغيره. وقرأ يحيى بن الحرث الزماري : لنظر، بنون واحدة وتشديد الظاء وقال : هكذا رأيته في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويعني : أنه رآها بنون واحدة، لأن النقط والشكل بالحركات والتشديدات إنما حدث بعد عثمان، ولا يدل كتبه بنون واحدة على حذف النون من اللفظ، ولا على إدغامها في الظاء، لأن أدغام النون في الظاء لا يجوز، ومسوغ حذفها أنه لا أثر لها في الأنف، فينبغي أن تحمل قراءة يحيى على أنه بالغ في إخفاء الغنة، فتوهم السامع أنه إدغام، فنسب ذلك إليه. وكيف معموله لتعملون، والجملة في موضع نصب لننظر، لأنها معلقة. وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٢٠
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَـاتٍا قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـاذَآ أَوْ بَدِّلْه قُلْ مَا يَكُونُ﴾ : قال ابن عباس والكلبي : نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا : يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه، ما نسألك. وقال مجاهد وقتادة : نزلت في جماعة من مشركي مكة. وقال مقاتل : في خمسة نفر : عبد الله بن أمية المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن وائل. وقيل : الخمسة الوليد، والعاصي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن حنظلة، وروي هذا عن ابن عباس.
قال الزمخشري : غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين فقالوا : ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك. وقال ابن عطية : نزلت في قريش لأن بعض كفار قريش قال هذه المقالة على معنى : ساهلنا يا محمد، واجعل هذا الكلام الذي من قبلك هو باختيارنا، وأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته، ليكون أمرنا حينئذ واحداً وكلمتنا متصلة انتهى. ونبه تعالى على الوصف الحامل لهم على هذه المقالة، وهو كونهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء على ما اقترفوه، والمعنى : وإذا تسرد عليهم آيات القرآن واضحات نيرات لا لبس فيها قالوا كيت وكيت، وأضيفت الآيات إليه تعالى لأنها كلامه جل وعز، والتبديل يكون في الذات بأن يجعل بدل ذات ذات أخرى، ويكون في الصفة. والتبديل هنا هو في الصفة، وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب آية الرحمة، ولا يراد بالتبديل هنا أن يكون في الذات، لأنه يلزم جعل الشيء المقتضي للتغابر هو الشيء
١٣١
بعينه، لأن التبديل في الذات هو الإتيان بقرآن غير هذا. ولما كان الآيتان بقرآن غير هذا غير مقدور للإنسان لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإنسان، وإن كان مستحيلاً ذلك في حقه صلى الله عليه وسلّم فقيل له : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي. وانتفاء الكون هنا هو كقوله تعالى :﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنابِتُوا شَجَرَهَآ﴾ أي يستحيل ذلك. ويحتمل أن يكون التبديل في الذات عل أن يلحظ في قوله : ائت بقرآن غير هذا، بقاء هذا القرآن ويؤتى بقرآن غيره، فيكون أو بدله بمعنى أزله بالكلية وائت ببدله، فيكون المطلوب أحد أمرين : إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات، أو الإتيان بغيره مع بقائه فيحصل التغاير بين المطلوبين. وتلقاء مصدر التبيان، ولم يجيء مصدر على تفعال غيرهما، ويستعمل ظرفاً للمقابلة تقول : زيد تلقاءك. وقرىء بفتح التاء، وهو قياس المصادر التي للمبالغة كالتطواف والتجوال والترداد والمعنى : من قبل نفسي أن أتبع فيما آمركم به وما أنهاكم عنه من غير زيادة ولا نقصان، ولا تبديل إلا ما يجيئني خبره من السماء. واستدل بقوله : إنْ أتبع إلا ما يوحى إليّ على نفي الحكم بالاجتهاد، وعلى نفي القياس، وإنما قالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله، لأنهم كانوا لا يعترفون بأنّ القرآن معجز، أو إن كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله. ألا ترى إلى قولهم : لو نشاء لقلنا مثل هذا وقولهم :﴿افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ ولا يمكن أن يريدوا إئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله : إني أخاف.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٢٠


الصفحة التالية
Icon