﴿هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِا حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِم دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَـاِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِهِ﴾ : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى فإذا أذاقهم الرحمة، عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله والمكر في آياته. وكان قبل ذلك قد ذكر نحواً من هذا في قوله :﴿وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ الضُّرُّ﴾ الآية. وكان المذكور في الآيتين أمراً كلياً، أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ودعواه أنه شفيعه عند الله، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض، فإنجاؤه تعالى إياهم هو مثال من أذاقه الرحمة وما كانوا فيه قبل من إشافهم على الهلاك هو مثال من الضر الذي مسهم. وقرأ زيد بن ثابت، والحسن، وأبو العالية، وزيد بن علي، وأبو جعفر، وعبد الله بن جبير، وأبو عبد الرحمن، وشيبة، وابن عامر : ينشركم من النشر والبث. وقرأ الحس أيضاً : ينشركم من الإنشار وهو الإحياء، وهي قراءة عبد الله. وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر الذي هو مطاوعة الانتشار. وقرأ باقي السبعة والجمهور : يسيركم من التيسير. قال أبو علي : هو تضعيف مبالغة، لا تضعيف تعدية، لأن العرب تقول : سرت الرجل وسيرته، ومنه قول الهذلي :
١٣٧
فلا تجز عن من سنة أنت سرتهافأول راض سنه من يسيرها
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٢٠
قال ابن عطية : وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكونن شاهداً في هذا، وهو أن يكون الضمير كالظرف كما تقول : سرت الطريق انتهى. وما ذكره أبو علي لا يتعين، بل الظاهر أنّ التضعيف فيه للتعدية، لأنّ سار الرجل لازماً ما أكثر من سرت الرجل متعدياً فجعله ناشأ عن الأكثر أحسن من جعله ناشئاً عن الأقل. وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف قال كما تقول : سرت الطريق، فهذا لا يجوز عند الجمهور، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد، فلا يصل إليه الفعل غيره. دخلت عند سيبويه، وانطلقت، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أنْ لا يتعدى إليه الفعل. وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة في. وزعم أبن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص، فيصل إليه الفعل يغر وساطة في، وهو زعم مردود في النحو.
ومعنى يسيركم : يجعلكم تسيرون، والسير معروف، وفي قوله : والبحر دلالة على جواز ركوب البحر. ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر وقع المثال به لذلك المعنى الكلي به من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة والإهمال لجانبه حالة الرخاء. قال الزمخشري :(فإن قلت) : كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك ؟ (قلت) : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في خبرها كأنه قال : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، والظن للهلاك، والدعاء للانجاء انتهى. وهو حسن، وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء : في الفلكي بزيادة ياء النسب، وخرج ذلك على زيادتها، كما زادوها في الصفة في نحو : أحمرّيّ وزواريّ، وفي العلم كقول الصلتان : أنا الصلتاني الذي قد علمتم. وعلى إرادة النسب مراد به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، والضمير في وجرين عائد على الفلك على معنى الجمع، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفرداً وجمعاً، والضمير في بهم عائد على الكائنين في الفلك. وهو التفات، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة. وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال الزمخشري : المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى. والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنّ حكمة الالتفات هنا هي أنّ قوله : هو الذي يسيركم في البر والبحر، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين،
١٣٨
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٢٠


الصفحة التالية
Icon