﴿فَذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّا فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلـالُا فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ : فذلك إشارة إلى من اختص بالأوصاف السابقة، الحق الثابت الربوبية المستوجبة للعبادة، واعتقاد اختصاصه بالألوهية أصنامكم المربوطة الباطلة. وماذا استفهام معناه النفي، ولذلك دخلت إلا، وصحبه التقرير والتوبيخ، كأنه قيل : ما بعد الحق إلا الضلال، فالحق والضلال لا واسطة بينهما، إذ هما نقيضان، فمن يخطىء الحق وقع في الضلال. وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهاماً، كأنه قيل : أي شيء. والخبر بعد الحق، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون خبر ما، كأنه قيل : الذي بعد الحق ؟ وبعد صلة كذا. ولما ذكر تعالى تلك الصفات، وأشار إلى أنّ المتصف بها هو الله، وأنه مالكهم وأنه هو الحق، ثم وبخهم على اتباع الضلال بعد وضوح الحق قال تعالى : فأنى تصرفون، أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة، وكيف تشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شيء من تلك الأوصاف. واستنباط كون الشطرنج ضلالاً من قوله : فماذا بعد الحق إلا الضلال، لا يكاد يظهر، لأنّ الآية إنما مساقها في الكفر والإيمان وعبادة الأصنام وعبادة الله، وليس مساقها في الأمور الفرعية التي تختلف فيها الشرائع، وتختلف فيها أقوال علماء ملتنا. وقد تعلق الجبائي بهذه الآية في الرد على المجبرة إذ يقولون : إنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان. قال : لو كان كذلك ما قال : أنى تصرفون. كما لو أعمى بصر أحدهم لا يقول : إني عميت. كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب، والإشارة بذلك قيل : إلى المصدر المفهوم من تصرفون، مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله : فسيقولون الله حق العذاب عليهم أي : جازاهم مثل أفعالهم. وقيل : إشارة إلى الحق. قال الزمخشري : كذلك مثل ذلك الحق حقت كلمة ربك، أي كما حق وثبت أنّ الحق بعد الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقت كلمة ربك. وقال ابن عطية : كذلك أي كما كانت صفات الله كما وصف، وعبادته واجبة كما تقرر، وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم، واكتسبوا كذلك حقت. ومعنى فسقوا : تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه، وأنهم لا يؤمنون بدل من كلمة
١٥٤
ربك أي : حق عليهم انتفاء الإيمان. ويجوز أن يراد بالكلمة عدة العذاب، ويكون أنهم لا يؤمنون تعليلاً أي : لأنهم لا يؤمنون. ويوضح هذا الوجه قراءة ابن أبي عبلة : أنهم لا يؤمنون بالكسر، وهذا إخبار منه تعالى أنّ في الكفار من حتم الله بكفره وقضى بتخليده. وقرأ أبو جعفر وشيبة والصاحبان : كلمات على الجمع هنا وفي آخر السورة. وقرأ باقي السبعة على الافراد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآاِكُم مَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُا قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُا فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ : لما استفهمهم عن أشياء من صفات الله تعالى واعترفوا بها، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة الله، استفهم عن شيء هو سبب العبادة : وهو إبداء الخلق، وهم يسلمون ذلك. ﴿وَلَـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ثم أعاد الخلق وهم منكرون ذلك، لكنه عطفه على يسلمونه ليعلم أيهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله، وأنّ ذلك لوضوحه وقيام برهانه، قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر، إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء. وجاء الشرع بوجوبه، فوجب اعتقاده. ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يجيب فقال : قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده، وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بخبرها، فعاد الخبر فيها مطابقاً لخبر اسم الاستفهام، وذلك تأكيد وتثبيت. ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به، جاءت الجملة محذوفاً منها أحد جزءيها في قوله : فسيقولون الله، ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح خبرها. ومعنى تؤفكون تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق.


الصفحة التالية
Icon