﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاه قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِا وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ : لما نفى تعالى أن يكون القرآن مفترى، بل جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب وبياناً لما فيها، ذكر أعظم دليل على أنه من عند الله وهو الإعجاز الذي اشتمل عليه، فأبطل بذلك دعواهم افتراءه، وتقدم الكلام على ذلك مشبعاً في البقرة في قوله :﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ﴾ الآية. وأم متضمنة معنى بل، والهمزة على مذهب سيبويه أي : أيقولون اختلقه. والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم، أو إنكار لقولهم واستبعاد. وقالت فرقة : أم هذه بمنزلة همزة استفهام. وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو ومجازه، ويقولون افتراه. وقيل : الميم صلة، والتقدير أيقولون. وقيل : أم هي المعادلة للهمزة، وحذفت الجملة قبلها والتقدير : أيقرون به أم يقولون افتراه. وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال : قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى. والضمير في مثله عائد على القرآن أي : بسورة مماثلة للقرآن، وتقدم الكلام لنا فيما وقع به الإعجاز.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
وقرأ عمرو بن قائد بسورة مثله على الإضافة أي : بسورة كتاب أو كلام مثله أي : مثل القرآن. وقال صاحب اللوامح : هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي : بصورة بشر مثله، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، وفي العامة إلى القرآن. وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق الله إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دونن الله أي : من غير الله، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا الله، فلا تستعينوه وحده، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه. وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا : لأنه تحدّى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر، فوجب أن لا يصح التحدي به. وقال أبو عبد الله الرازي : مراتب التحدي بالقرآن ست تحدّ بكل القرآن في :﴿قُل لَّئنِ اجْتَمَعَتِ﴾ الآية، وتحد بعشر سور، وتحدّ بسورة واحدة، وتحد بحديث مثله في قوله :﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ﴾ وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إسنان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصاً.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِا وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُا كَذَالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ : قال الزمخشري : بل كذبوا، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم. وقال ابن عطية : هذا اللفظ يحتمل معنيين : أحدهما : أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم الله على الكفر، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله :﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُا﴾ والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيداً، والمعنى الثاني : أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبىء بالغيوب الذي لم يتقدّم لهم به معرفة، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه. وقال أبو عبد الله الرازي : يحتمل وجوهاً، الأول : كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ﴿أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ﴾ ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية،
١٥٨


الصفحة التالية
Icon