﴿تُرْجَعُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ : قيل : نزلت في قريش الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلّم أحق ؟ هو فالناس هم كفار قريش. وقال ابن عطية : هو خطاب لجميع العالم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة، ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدّي إليها وهو القرآن، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن. قال الزمخشري : أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد، هو شفاء أي : دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم انتهى. ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم، فمن لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي : من مواعظ ربكم، فتتعلق بمحذوف، فمن للتبعيض. وفي قوله : من ربكم تنبيه على أنه من عند الله ليس من عند أحد. قال ابن عطية : وجعله موعظة بحسب الناس أجمع، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تؤوّل بأن وجهه انتهى. وذكر أبو عبد الله الرازي هنا كلاماً كثيراً ممزوجاً بما يسمونه حكمة، نعلم قطعاً أنّ العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن، وطوّل في ذلك، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره، ثم قال آخر كلامه : فالحاصل أنّ الموعظة إشارة إل تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الريقة، والهدى إشارة إل ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة إشارة إل كونها بالغة في الكمال، والإشراق إل حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوّة. فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية، لا يمكن تأخر ما تقدّم ذكره، ولا تقدم ما تأخر ذكره.
١٧٠
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِا فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ : قال الزمخشري عن أبيّ بن كعب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ : قل بفضل الله وبرحمته فقال :﴿اللَّهِ﴾ فضله الإسلام، ورحمته ما وعد عليه انتهى. ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه. قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، وهلال بن يساف : فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن. وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا، وقال أبو سعيد الخدري : الفضل القرآن، والرحمة أن جعلهم من أهله. وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه : الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلّم. وقال ابن عمر : الفضل الإسلام، والرحمة تزيينه في القلوب. وقال مجاهد : الفضل والرحمة القرآن، واختاره الزجاج. وقال خالد بن معدان : الفضل القرآن، والرحمة السنة. وعنه أيضاً أنّ الفضل الإسلام، والرحمة الستر. وقال عمرو بن عثمان : فضل الله كشف الغطاء، ورحمته الرؤية واللقاء. وقال الحسين بن فضل : الفضل الإيمان، والرحمة الجنة. وقيل : الفضل التوفيق، والرحمة العصمة. وقيل : الفضل نعمه الظاهرة، والرحمة نعمه الباطنة. وقال الصادق : الفضل المغفرة، والرحمة التوفيق. وقال ذون النون : الفضل الجنان، ورحمته النجاة من النيران. وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥


الصفحة التالية
Icon