من قبل معناه من قبل العذاب، وهذا القول فيه بعد. وقيل : الضمير في كذبوا عائد على قوم نوح أي : فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، يعني : أن شنشنتهم واحدة في التكذيب. قال ابن عطية، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو : أن تكون ما مصدرية، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي : من سببه ومن جرائه، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى. والظاهر أنّ ما موصولة، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله : بما كذبوا به. ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير. وقرأ الجمهور : نطبع بالنون، والعباس بن الفضل بالياء، والكاف للتشبيه أي : مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٧٨
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنا بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَـارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِا بِـاَايَـاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُم أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّـاحِرُونَ﴾ أي : من بعد أولئك الرسل بآياتنا وهي المعجزات التي ظهرت على يديه، ولا يخص قوله : وملائه بالإشراف، بل هي عامّة لقوم فرعون شريفهم ومسروفهم. فاستكبروا تعاظموا عن قبولها، وأعظم الكبر أن يتعاظم العبيد عن قبول رسالة ربهم بعد تبينها واستيضاحها، وباجترامهم الآثام العظيمة استكبروا واجترؤوا على ردّها. والحق هو العصا واليد قالوا لحبهم الشهوات : إن هذا لسحر مبين، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلاً، ولم يقولوا إنّ هذا لسحر مبين إلا عند معاينة العصا وانقلابها، واليد وخروجها بيضاء، ولم يتعاطوا إلا مقاومة العصا وهي معجزة موسى الذي وقع فيها عجز المعارض. وقرأ مجاهد، وابن جبير، والأعمش : لساحر مبين، جعل خبر إنّ اسم فاعل لا مصدراً كقراءة الجماعة. ولما كابروا موسى فيما جاء به من الحق أخبروا على جهة الجزم بأنّ ما جاء به سحر مبين فقال لهم موسى : أتقولون ؟ مستفهماً على جهة الإنكار والتوبيخ، حيث جعلوا الحق سحراً، أسحر هذا أي : مثل هذا الحق لا يدعى أنه سحر. وأخبر أنه لا يفلح من كان ساحراً لقوله تعالى :﴿وَلا يُفْلِحُ السَّـاحِرُونَ﴾ والظاهر أنّ معمول أتقولون محذوف تقديره : ما تقدم ذكره وهو أنّ هذا لسحر، ويجوز أن يحذف معمول القول للدلالة عليه نحو قول الشاعر :
لنحن الألى قلتم فإني ملتئمبرؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
ومسألة الكتاب متى رأيت، أو قلت زيداً منطلقاً. وقيل : معمول أتقولون هو أسحر هذا إلى آخره، كأنهم قالوا : أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح الساحرون. كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به السحر إن الله سيبطله. والذين قالوا : بأن الجملة وأن الاستفهام هي محكية لقول اختلفوا فقال بعضهم : قالوا ذلك على سبيل التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم، كما تقول لفرس تراه يجيد الجري : أفرس هذا على سبيل التعجيب والاستغراب، وأنت قد علمت أنه فرس، فهو استفهام معناه التعجيب والتعظيم. وقال بعضهم : قال ذلك منهم كل جاهل بالأمر، فهو يسأل أهو سحر ؟ لقول بعضهم : إن هذا لسحر، وأجاز الزمخشري أن يكون معنى قوله : أتقولون للحق، أتعيبونه وتطعنون فيه، فكان عليكم أن تدعنوا له وتعظموه، قال : من قولهم فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوء، ونحو القول الذكر في قوله : سمعنا فتى يذكرهم ثم قال أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه.
١٨١
وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم. فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون. فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين. ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون} : أجئتنا خطاب لموسى وحده، لأنه هو الذي ظهرت على يديه معجزة العصا واليد. لتصرفنا وتلوينا عن ما وجدنا عليه آباءنا كامن عبادة غير الله، واتخاذ إله دونه. والكبرياء مصدر. قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأكثر المتأولين : المراد به هنا الملك، إذ الملوك موصوفون بالكبر، ولذلك قيل للملك الجبار، ووصف بالصد والشرس. وقال ابن الرقيات في مصعب بن الزبير :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٧٨
ملكه ملك رأفة ليس فيهجبروت منه ولا كبرياء
يعني ما عليه الملوك من ذلك. وقال ابن الرقاع :
سؤدد غير فاحش لا يدانيه تحبارة ولا كبرياء


الصفحة التالية
Icon