فاعمد لما تعلو فما لك بالذيلا تستطيع من الأمور يدان أي لما تقهر أقوال متقاربة، وإسرافه كونه كثير القتل والتعذيب. وقيل : كونه من أخس العبيد فادعى الإلهية، وهذا الإخبار مبين سبب خوف أولئك المؤمنين منه.
وفي الآية مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلّم بقلة من آمن لموسى ومن استجاب له مع ظهور ذلك المعجز الباهر، ولم يؤمن له إلا ذرية من قومه، وخطاب موسى عليه السلام لمن آمن بقوله : يا قوم، دليل على أن المؤمنين الذرية كانوا من قومه، وخاطبهم بذلك حين اشتد خوفهم مما توعدهم به فرعون من قتل الآباء وذبح الذرية. وقيل : قال لهم ذلك حين قالوا إنا لمدركون. وقيل : حين قالوا : أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قيل : والأول هو الصواب، لأنّ جواب كل من القولين مذكور بعده وهو :﴿كَلا إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ﴾ وقوله :﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ الآية وعلق توكلهم على شرطين : متقدم، ومتأخر. ومتى كان الشرطان لا يترتبان في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول، فمن حيث هو شرط فيه يجب أن يكون متقدماً عليه. فالإسلام هو الانقياد للتكاليف الصادرة من الله، وإظهار الخضوع وترك التمرّد، والإيمان عرفان القلب بالله تعالى ووحدانيته وسائر صفاته، وأنّ ما سواه محدث تحت قهره وتدبيره. وإذا حصل هذان الشرطان فو العبد جميع أموره إلى الله تعالى، واعتمد عليه في كل الأحوال. وأدخل أنْ على فعلي الشرط وإن كانت في الأغلب إنما تدخل على غير المحقق مع علمه بإيمانهم على وجه إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة، كما تقول : إن كنت رجلاً فقاتل، تخاطب بذلك رجلاً تريد إقامة البينة. وطول ابن عطية هنا في مسألة التوكل بما يوقف عليه في كتابه، وأجابوا موسى عليه السلام بما أمرهم به من التوكل على الله لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم وإسلامهم، ثم سألوا الله تعالى شيئين : أحدهما : أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين. قال الزمخشري : أي موضع فتنة لهم، أي عذاب تعذبوننا أو تفتنوننا عن ديننا، أو فتنة لهم يفتنون بها ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق ما أصيبوا. وقال مجاهد وأبو مجلز وأبو الضحى وغيرهم : معنى القول الآخر قال : المعنى لا ينزل بنا ملأنا بأيديهم أو بغير ذلك مدة محاربتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أنْ هلا كنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق. وقالت فرقة : المعنى لا نفتنهم ونبتليهم بقتلنا وإذايتنا فنعذبهم على ذلك في الآخرة. قال ابن عطية : وفي هذا التأويل قلق. وقال ابن الكلبي : لا تجعلنا فتنة بتقتير الرزق علينا وبسطه لهم. والآخر : ينجيهم من الكافرين أي : من تسخيرهم واستعبادهم. والذي يظهر أنهم سألوا الله تعالى أنْ لا يفتنوا عن دينهم، وأن يخلصوا من الكفار، فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم، وأخروا سلامة أنفسهم، إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الأبدان.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٧٨
﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ : لم يصرح باسم أخيه لأنه قد تقدّم أولاً في قوله :﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنا بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَـارُونَ﴾ وتبوآ اتخذا مباءة أي مرجعاً للعبادة والصلاة كما تقول : توطن اتخذ موطناً، والظاهر اتخاذ البيوت بمصر. قال الضحاك : وهي مصر المحروسة، ومصر من البحر إلى أسوان، والاسكندرية من أرض مصر. وقال مجاهد : هي
١٨٥
الاسكندرية، وكان فرعون قد استولى على بني إسرائيل خرب مساجدهم ومواضع عباداتهم، ومنعهم من الصلوات، وكلفهم الأعمال الشاقة. وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأنْ يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم، فيردوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام. وقرأ حفص في رواية هبيرة : تبويا بالياء، وهذا تسهيل غير قياسي، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف، والظاهر أنّ المأمور بأنْ يجعل قبلة هي المأمور بتبوئها. ومعنى قبلة مساجد : أمروا بأن يتخذوا بيوتهم مساجد قاله : النخعي، وابن زيد، وروي عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضاً : واجعلوا بيوتكم قبل القبلة، وعنه أيضاً : قبل مكة. وقال مجاهد وقتادة ومقاتل والفراء : أمروا بأن يجعلوها مستقبلة الكعبة. وعن ابن عباس أيضاً وابن جبير : قبلة يقابل بعضها بعضاً. وأقيموا الصلاة وهذا قبل نزول التوراة، لأنها لم تنزل إلا بعد إجارة البحر. وبشر المؤمنين يعني : بالنصر في الدنيا وبالجنة في الآخرة، وهو أمر لموسى عليه السلام أن يتبوآ لقومهما ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم نسق الخطاب عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيماً له وللمبشر به.


الصفحة التالية
Icon