وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله : الم ذلك الكتاب، وأحكمت صفة له. ومعنى الأحكام : نظمه نظماً رضياً لا نقص فيه ولا خلل، كالبناء المحكم. وهو الموثق في الترصيف، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً، فالمعنى : جعلت حكيمة كقولك : تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله :﴿الْكِتَـابِ الْحَكِيمِ﴾ وقيل : من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها، فالمعنى : منعت من النساء كما قال جرير :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكمإني أخاف عليكم أن أغضبا
وعن قتادة : أحكمت من الباطل. قال ابن قتيبة : أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول، ثم فصل بتقطيعه وتبيين أحكامه وأوامره عل محمد صلى الله عليه وسلّم فثم على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل. إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب أجمعه محكم مفصل، والإحكام الذي هو ضد النسخ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين : أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب. وعن بعضهم : أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى، ولكن لا يقتضيه اللفظ. وقيل : فصلت معناه فسرت، وقال الزمخشري : ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بيّن ولخص. وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري، وزيد بن علي، وابن كثير في رواية : ثم فصلت بفتحتين، خفيفة على لزوم الفعل للآيات. قال صاحب اللوامح : يعني انفصلت وصدرت. وقال ابن عطية : فصلت بين المحق والمبطل من الناس، أو نزلت إلى الناس كما تقول : فصل فلان بسفره.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
قال الزمخشري : وقرىء أحكمت آياته ثم فصلت أي : أحكمتها أنا نائم، فصلتها. (فإن قلت) : ما معنى ؟ ثم (قلت) : ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول : هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل انتهى. يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة. ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبراً بعد خبر. قال الزمخشري : أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي : من عنده أحكامها وتفصيلها. وفيه طباق حسن، لأنّ المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي : بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى. ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معاً من حيث صناعة الإعراب، بل يريد أن ذلك من باب الاعمال، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى. وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر، لأنه لا يحتاج إلى إضمار. وقيل : التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا، فيكون مفعولاً من أجله، ووصلت أنْ بالنهي. وقيل : أنْ نصبت لا تعبدوا، فالفعل خبر منفي. وقيل : أنْ هي المخففة من الثقيلة، وجملة النهي
٢٠٠
في موضع الخبر، وفي هذه الأقوال العامل فصلت. وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها، أو التقدير : من النظر أنْ لا تعبدوا إلا الله، أو في الكتاب ألا تعبدوا، أو هي أنْ لا تعبدوا، أو ضمن أنْ لا تعبدوا، أو تفصله أنْ لا تعبدوا، فهو بمعزل عن علم الإعراب. والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي : إني لكم نذير من جهته وبشير، فيكون في موضع الصفة، فتعلق بمحذوف أي : كائن من جهته. أو تعلق بنذير أي : أنذركم من عذابه إنْ كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. وقيل : يعود على الكتابة أي : نذير لكم من مخالفته، وبشير منه لمن آمن وعمل به. وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم. وأنْ استغفروا معطوف على أنْ لا تعبدوا، نهي أو نفي أي : لا يعبد إلا الله. وأمر بالاستغفار من الذنوب، ثم بالتوبة، وهما معنيان متباينان، لأنّ الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والمعنى : أنه لا يبقى لها تبعة. والتوبة الانسلاخ من المعاصي، والندم على ما سلف منها، والعزم على عدم العود إليها. ومن قال : الاستغفار توبة، جعل قوله : ثم توبوا، بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. قال ابن عطية : وثم مرتبة، لأن الكافر أول ما ينيب، فإنه في طلب مغفرة ربه، فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨


الصفحة التالية
Icon