﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ : الدابة هنا عام في كل حيوان يحتاج إلى رزق، وعلى الله ظاهر في الوجوب، وإنما هو تفضل، ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل به عليهم أبرزه في حيز الوجوب. قال ابن عباس : مستقرها حيث تأوى إليه من الأرض، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن. وعنه أيضاً : مستقرها في الرحم، ومستودعها في الصلب. وقال الربيع بن أنس : مستقرها في أيام حياتها، ومستودعها حين تموت وحين تبعث. وقيل : مستقرها في الجنة أو في النار، ومستودعها في القبر، ويدل عليه :﴿حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا﴾ ﴿إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا﴾ وقيل : ما يستقر عليه عملها، ومستودعها ما تصير إليه. وقيل : المستقر ما حصل موجوداً من الحيوان، والمستودع ما سيوجد بعد المستقر. وقال الزمخشري : المستقر مكانه من الأرض ومسكنه، والمستودع حيث كان موجوداً قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة انتهى. ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدّي الفعل منه، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله كل أي : كل من الرزق والمستقر والمستودع في اللوح يعني : وذكرها مكتوب فيه مبين. وقيل : الكتاب هنا مجاز، وهو إشارة إلى علم الله، وحمله على الظاهر أولى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
﴿وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُه عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَاِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِنا بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ﴾ : لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالماً، ذكر ما يدل على كونه قادراً، وتقدّم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس. والظاهر أنّ قوله : وكان عرشه على الماء، تقديره قبل خلق السموات والأرض، وفي هذا دليل على أنّ الماء والعرش كانا مخلوقين قبل. قال كعب : خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وروي عن ابن عباس أنه وقد قيل له : على أي شيء كان الماء ؟ قال : كان على متن الريح، والظاهر تعليق ليبلوكم بخلق. قال الزمخشري : أي خلقهن لحكمة بالغة، وهي أنْ يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه
٢٠٤
ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون. (فإن قلت) : كيف جاز تعليق فعل البلوى ؟ (قلت) : لما في الاختبار من معنى العلم، لأنه طريق الله، فهو ملابس له كما تقول : انظر أيهم أحسن وجهاً، واستمع أيهم أحسن صوتاً، لأنّ النظر والاستماع من طرق العلم انتهى. وفي قوله : ومن كفر وعصى عاقبه، دسيسة الاعتزال. وأما قوله : واستمع أيهم أحسن صوتاً، فلا أعلم أحداً ذكر أن استمع تعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف. وقيل : ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا التأوي أنّ هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر. وقيل : تقدير الفعل، وخلقكم ليبلوكم. وقيل : في الكلام جمل محذوفة، التقدير : وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى، وفعل ذلك ليبلوكم. ومعنى أيكم أحسن عملاً : أهذا أحسن أم هذا. قال ابن بحر : روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم "أيكم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله" ولو صح هذا التفسير عن الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يعدل عنه. وقال الحسن : أزهد في الله. وقال مقاتل : أتقى لله. وقال الضحاك : أكثركم شكراً.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨